خزامى درويش
تتميّز قصص الحب التي تركت أثراً بارزاً في حياة البشر، وحفرت في ذاكرتهم ووجدانهم، بأنها قصصٌ ذات أحداثٍ تراجيديّة ونهاياتٍ مفجعة، يرتبط الحبّ فيها بالمعاناة النبيلة، والحزن الجميل في رحلة الدفاع عن الحبيب والتضحية لأجله.
سَتدوّن كتب التاريخ حكاياتٍ شاسعة عن الحبّ الأسطوري في سورية، الذي ولد من رحم المأساة، ومن تفاصيل ومصادفاتٍ عبثيّة ومؤلمة، تتفوّق في مشاهدها وفصولها على جميع الأفلام والروايات. عشاقٌ أحبّوا بعضهم في غمرة البحث عن وطنٍ ضائع، وعاشوا ثنائيات ملحميّة، غامروا وحلموا معاً، خافوا وتفاءلوا معاً، اعتقلوا وتشرّدوا معاً، وكان الحبّ بحجم وطنهم المشتهى. اغتالت الحرب أحلامهم وزرعت بينهم الموت والفراق. تفرّقوا وبقي حبّهم صامداً يتبع خطاهم أين ما حلّوا.
في فصول تلك الحكايات، كان للنساء النصيب الأكبر من الفقد واللوعة والانتظار، فحظّ الرجال من الموت والغياب كان أكبر.
لم تنسَ (خ) حبيبها الذي استشهد تحت التعذيب في أقبية السجون منذ ثلاث سنوات، ومازال طيفه يزورها كلّ لحظة وروحه تعيش معها. انتظرته عاماً كاملاً، وهي تقاوم حرب عائلتها التي حاولت إبعادها عنه، خوفاً عليها من مصيرٍ مشابه. صارعت المستحيل لإنقاذه من الجحيم، رغم الملاحقات الأمنية التي تعرّضت لها لمعرفتها به. لم تترك باباً إلا وطرقته لتحظى بخبر عنه، لكنّ الخبر الوحيد الذي جاءها كان خبر موته، فعاد إليها أخيراً روحاً بغير جسد… حتى الآن ترتدي (ع) ثياب السواد وتبكي خطيبها، ذا الخامسة والعشرين عاماً، الذي استشهد في إحدى التفجيرات، وهو ذاهبٌ لشراء بدلة العرس الذي تحول إلى مأتم. تزور قبره كلّ حين، وتهديه الزهور المغرم بها لتذكّره بحبّهما اليتيم. ترفض السفر لتبقى قريبة من أمه الثكلى، التي تشّتَم منها رائحة وجوده، وتقاوم جميع عروض الحبّ والزواج، بعد أن أغلقت قلبها على حبه ولم يخرج منه بعد…. أمّا (أ) فقد زَيّنت جدران منزلها بصور زوجها، وخَطَّت عليها عبارات كان يحبّها. تعانق ثيابه وتشمَّها كلّ يوم لتبلّلها بالدموع، وتلعن القذيفة الطائشة التي أودت بحياته وسرقت نصف حياتها، تربّي أطفالها اليتامى الذين أصبحوا عزاءها الوحيد، وتستمدّ البقاء منهم… بقي لـ (م) من حبيبها صندوق صور وذكريات، كانت تحلم وإياه ببلاد دافئة تحضن حبّهما، فسافر على أمل أن تلحق به، لكنّ البحر اختطفه قبل أن يصل، وابتعلع أحلامه وأحلام عشاقٍ كثر، تتفوق مأساة حكاياهم ألف مرّة على مأساة التايتانك. أصابها رحيله بعطبٍ نفسيِّ روحيّ، فضلَّت أشهراً عدّة تزور الأطباء النفسيين، وتعيش على المهدّئات ومضادات الاكتئاب، لكن مرض رحيله لم يشفَ…. أمّا (س) فلحبّها حدثٌ دراميٌ آخر. كانت تسير مع حبيبها في شوارع دمشق، ويتحدّثان عن مستقبل حبهما، فأوقفه أحد الحواجز، ثم اقتاده مرغماً إلى الخدمة الاحتياطيّة في الجيش، وسط نواحها الذي ملأ المكان. كانت تؤنس لوعة الفراق بسماع صوته عبر الهاتف كلّ حين، لكنّ صوته اختفى شهراً كاملاً، وبدأت نار الخوف تحرق قلبها، حتى وقعت المصيبة وجاءها خبر مقتله في إحدى المعارك، فعاد إليها بعد الغياب جثةً مغيَّبة الملامح. سنتان مرّت ولم تبرأ جراح الفقد، تحاصرها أشياؤه ورسائل عشقه الذي يقاوم النسيان.
يعشّن تحت وطأة الإنتظار والترقب، نساءٌ ينتظرن أحبّتهن القابعين في جحيم السجون، والمفقودين والمغيبين قسراً، أو ينتظرن الوصول إلى حضن أحبّتهن المبعدين، أوعودتهم إلى جنَّتَهم التي هُجِّروا منها. حالات اشتياقٍ وتوق تزداد كلّ يوم وتؤرق المشاعر والعواطف… كيف يمكن وصف حالة (ل) التي تَمزَّق قلبها اليتيم، وهي تنتظر خطيبها المعتقل منذ ثلاث سنوات، ولا تعلم إن كان حيّاً أو ميتاً، ورغم هذا، ترفض فكرة أن يكون ميتاً؟. في غيابه أصبحت ابنةً لأبويه المسنين، اللذين فقدا أخاه الوحيد، ترعاهما وتدعمهما وتؤنس وحشتهما المؤلمة، وتنتظر معهما فرجاً ما قبل أن يضيع مستقبلها في ترقب أملٍ قد لا يأتي… من أين ستأتي بالصبر، (ف) التي ترى حبيبها كلّ شهر من خلف القضبان ولا تستطيع معانقته أو حتى لمسه؟. عامان من الاعتقال وهو ينتظر أن يحاكم على تهمٍ لم يقترفها، وقد يطول مكوثه هناك لتستمرّ المعاناة، وبالطبع، لن تستطيع أيّ نقابة محامين أو حتى منظمة حقوق إنسان، أن تنقذه أو تنقذ سواه…. كيف يمكن للحبّ أن يتحول إلى غصّة ووجع، يعتصر قلب (ن) التي فقدت زوجها الذي خرج من البيت منذ عامين ولم يعد، ولا تعرف شيئاً عن مصيره؟ بحثت عنه في كلّ مكان واستعانت بعشرات الأشخاص المتنفذين، لكنها لم تلقَ جواباً. سافر جميع أفراد عائلتها وأصرت أن تبقى على أمل اللقاء به… كيف لـ (هـ) أن تعيش بغير نصفها الأخر، الذي أبعدته المسافات عنها، وهي العالقة في لبنان ولا تستطيع العودة إلى سورية خوفاً من الاعتقال، وهو المحاصر في الداخل لا يستطيع الخروج للسبب ذاته؟ ترفض السفر إلى أوروبا لتبقى قريبةً منه على أمل أن يذهبا معاً، لكن الوقت يمر واللقاء يبتعد.
هنا في سورية يواجه الحبّ صراعات مضنية، يقاوم الخطر والخسائر والوداعات، والنساء، بشكل خاص، مهدّدات كلّ يوم بفقدان الحبيب، ومحاطات بمخالب الخوف والقلق، فكلّ امرأة تخشى على حبيبها من الفقد، بعد أن أصبح معظم الرجال هنا عرضةً لأخطارٍ شتى، فهم إمّا مطلوبين للخدمة الإلزاميّة، أو الاحتياطيّة في جيش سيلقي بهم إلى جحيم الموت المجاني، وإمّا مهددين باحتمالات الاعتقال التعسفي والنفي القسري، إضافة إلى شبح الموت اليوميّ المتربّص بكلّ جمال ومعنى، والحاضر بكلّ مكان وكلّ وقت.
وبعد أن خسرت البلاد معظم شبابها، خُلِق همٌ جديدٌ للشابات المقبلات على الحياة، فَقلَّ حظَّهن في الحبّ والعثور على شريك الحياة المشتهى، فقد أصبحت نسبة الإناث في سورية حوالي ضعفي نسبة الذكور، لذا شحَّت فرص اللقاء بفارس الأحلام. ففرسان الأحلام رحلوا، ومن بقي منهم هنا ترجّلوا عن أحصنتهم البيضاء، وارتدى بعضهم الزيّ العسكري وحمل السلاح، وبعضهم اعتكف في بيته يصارع انكسارته، أو يبحث عن مصيرٍ مشرق، ومنهم من يُعِدّ حقائبه للرحيل نحو مستقبلٍ ما، وأخرون لم تعد قلوبهم صالحة للمشاعر والعواطف، بعد أن ضاقت فسحات العشاق، وتحولت إلى ميادين للحواجز التي تقصقص أجنحة الحبّ، وإلى ملاعب للسلاح الذي يغتال المحبين كما يغتال الحياة.
خاص “شبكة المرأة السورية”