إنانا حاتم
دخلنا ساحة المعبد بحذر نترقب ما تبقى من وقت لينساب مع أنفاسنا الشوق للعيد والخوف من لقاءه، أقدامنا تدوس الأرضية الحجرية التي رصفت منذ قرون بترتيب أنيق، لعلها شعرت بخوفنا فاستيقظت لتمتص صدى خطواتنا.
هو آخر يوم من أيام السنة وقلة هنا من باتوا يتحمسون للأعياد، لوداع سنة أو استقبال أخرى، فقد حملت السنوات الماضية ما يكفي من التشتت والحيرة وأغرق طوفان الحرب أغلب بقاعها وطغى العبث حتى على الأحاديث.
وقفنا أنا وابني الصغير نخبئ أكفنا الباردة في جيوبنا ريثما نلتقط أثر ضوء يوحي لنا بأن أحداً قبلنا قد دخل المكان . تذكرت أعداد السُّياح الذين كانوا يأتون للفرجة على هذه الآثار…اليوم أصبح المكان مقفراً، منذ سنوات لم تطأه قدم سائح . تراءى لي خيال” فيليب العربي” هناك بين عمدان المعبد ,” لابد أنّ روحه، تراقبنا ” ، قلت في نفسي . وسألته :” كم نحتاج أن نستمد القوة والإرادة منك اليوم يا فيليبوس؟ إنه زمننا الكارثي .. هل تعلم “؟
يملؤني الأمل كل مرة أتذكر فيها كلام أستاذ التاريخ لنا قبل عشرين سنه عن قصة ذلك الحداد الفقير وابن هذه البلدة الصغيرة الذي تحول ليصبح أعظم فارس في الجيش الروماني . لا زلت حتى هذه اللحظة ازداد حماسة كلما تذكرت حديثه عن ذكاء الشاب وشجاعته التي جعلته خلال سنوات قائدا للجيش الروماني وغالباً ما أطلقت لخيالي العنان فرأيته جالساً هناك على كرسي المعبد بعد أن انتخب إمبراطوراً لروما العظيمة !
أمسكت بالشمعة اليتيمة بعد أن أضأتها، وابني الصغير خائفاً يشّد على يدي الأخرى.
لعلي أخطأت بإحضاره معي أو لعلنا بتنا لا نميز ما يناسبهم في هذه الظروف. عندما دخلنا المعبد فوجئت بعدد كبير من أهل البلدة كانوا قد سبقوني إلى المكان. خفت أن أطلق لصوتي العنان للتعبير عن فرحتي بهم فالصمت كان سيد المكان. سبقني ابني مطلقاً فرحه, وركض على الدرج صاعداً, لملاقاة رفاقه الذين أتوا قبلنا مع أهاليهم.
لم أكن وحدي إذن ,الكثيرون مثلي حضروا تحت سطوة الأمل لإضاءة شموع سلام لسوريا كما اتفقنا.
هي السادسة مساءاً , لكن العتمة كانت تلف المكان , ورغم أن الظلام بات جزءاً من يومياتنا , الا أننا اليوم تمنيناه أن يكون ستاراً لنا!
كل أصدقائي كانوا هناك وحتى صفوان، الطفل المنغولي، كان هناك مع والدته و معه رفاقه أيضا وبعض الشباب من ذوي الحاجات الخاصة الذين بدوا متحمسين .
قلت لنفسي :لابد أنهم مثلنا , بل بالتأكيد هم أكثر منا يحتاجون السلام . الأطفال ، المعاقون والعجزة.. هؤلاء غالباً ما يكونون أول ضحايا الحرب وإن نجوا من الموت فكيف لأرواحهم الرقيقة أن تحتمل آثاره؟
كان الكثير من الناس ينتظرون بحماس إشارة البدء بالمراسم. بعضهم أضاء شمعته وبعضهم أضاء جواله . حاولت الاستعجال بإضاءة شموعي , لكن نور الشمعة يحتاج لذلك الهدوء المطلق الذي تبثه أنفاس تنتظر الفرج, والشمعة برسالة وجودها ,تأبى أن نضيِّق عليها الوقت , فاللحظات يذيبها النور الساكن بخلجات ذاك الفتيل.
أشعلت شمعة لابني أيضا ونظرت الى شمعتي متسائلة : “كم تشبهنا تلك الشمعة بصبرها وبيقينها أنها تستحق أن تأخذ وقتها بالصيرورة وبالحياة ، لعلها تيقن مثلنا أن الظلام الأخرق سيحتاجها وأنها بمسيرة حياتها القصيرة تلك,لابد لها أيادٍ تداريها بمحبة , لتستبصر تلك الدروب”.
ما أن أنتهينا من إضاءة شموعنا واستدرنا جميعاً بصمت ووقفنا على المدرج الحجري، حتى همست إحداهن: “لازم ما نطول ,هلق الزعران بيجو وبيخربوا كل شي “.
تنهدت قائلة لنفسي : “معها حق ,لابد أن ّعيونهم قريبة , و أن رصاصهم جاهز”
“لكننا لن نقول شيء “هكذا أقنعت نفسي , فلقد اتفق الجميع ألا يكون هناك أي كلام , فكل المفردات في هذه البلاد, أصبحت ملغومة وقاتلة “.
لكن صوتاً صغيراً انبثق من بين الجموع الصامتة وبدأ بالغناء :
“ما أحلى أن نعيش , في خير وسلام …ما أحلى ان نكون في حب ووئام “
عرفته، إنه صفوان ، ورغم محاولة إسكاته من والدته، لكنه أبى إلاّ أن يكمل , فغنى الجميع معه واهتزت الشموع بنورها. ثم انطلقت أغنية “موطني” خجولة ثم ما لبثت أن أصبح الصوت أقوى وأكثر وضوحاً :
“لا نريد ذلنا المؤبدا
وعيشنا المنكدا …!
فاض المكان بأنفاسنا وغمرنا بإحساس بالقوة وبروح الجماعة. لكن أحدهم صاح : ” إجوا الزعران .. كل واحد على بيته يا جماعة”
فاستدار الجميع الى الدرج حيث قاموا سريعا بإلصاق شموعهم هناك عبر تثبيتها بين الحجارة .
وخلال وقت ليس بطويل تناثرت الشموع ملتصقة على الحائط وعلى أعلى الدرج وبين الأقواس مشكلة لوحة جميلة.
أسرعت أقدام الناس بالرحيل ,تاركين شموعهم متقدة هناك فأصوات سيارات الشبيحة الزعران كانت تقترب وأنفاسنا تتسارع!
وقبل أن نبتعد بقليل، صرخ أحد الأطفال بأعلى صوته تاركاً يد أمه: “استنوا شوية!”.
انقطعت أنفاسنا ونحن ننظر بلهفة إليه غير مصدقين , فلقد عاد لساحة المعبد ,غير آبه لعيونهم أو لمخاوفنا !
اقترب من شمعته التي كانت قد نامت على الأرض, فانطفأت ,أمسكها بإصرار وعاد لإشعالها من الشمعة المجاورة وبدأ بعملية إيقافها بثبات من جديد .
وقف للحظات ليطمئن عليها وركض باتجاه أمّه وأمسك يدها وعاد لمتابعة خطواته معنا بفرح ورضا.
خاص “شبكة المرأة السورية”