سلمى الدمشقي
ربما لا يحق لي الحديث عن تجربتها بدلا عنها، وما يدفعني للحديث الآن عنها صغر سنها ، وهول تجربتها ، وعدم مقدرتها حاليا على الحديث ، وربما سيأتي يوم تحكي فيه هي مفصلا عن هذه التجربة بالأسماء والتواريخ والوقائع. وسأكتفي فقط بسرد بعض الوقائع كي لا تُنسى في غمرة توالي الاحداث التي نعيشها في بلدنا سورية .
كنت أعرفها قبل دخولها المعتقل ولم أعرها اهتماما آنذاك ، كونها صبية صغيرة ومتحمسة ، وأعرف من عمري وخبرتي أن بقاءها عدة سنوات على مقاعد الدراسة الجامعية سينضجها . وزرتها بعد خروجها من سجن عدرا بعدة ساعات فاجأني منظرها ، لم تتجاوز فترة اعتقالها ثمانية أشهر بين الفروع وسجن عدرا كبرت فيهم عدة سنوات، وتجعد وجهها الأبيض الممتلئ ، وفقدت ملامح براءتها الطفولية التي كانت تميز وجهها . في ذلك اليوم لم تستطع التفوه بأي كلمة ، كانت ضائعة ومشتتة وتنظر حولها بعينين زائغتين ، ثم زرتها مرة أخرى بعد حوالي الشهر وروت لي في هذه الزيارة كل ما مر بها من أحداث في سجنها .
هي فتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها ، من الريف الدمشقي ، في بداية عهدها بالجامعة عام 2014تعرفت على بقايا الشباب الثائر وحاولت الانخراط والمساعدة في العمل المدني مع النازحين ، وكانت متحمسة لهذا العمل ، وهي ابنة هذا الريف الذي لم يبق من سكانه أحد في بيئته وأرضه وبيته ، ولم يمهلها الوقت ولا يقظة الأمن السوري للانخراط في العمل، حيث سرعان ما اعتقلت وزُج بها في أحد فروع الأمن الجوي .
بقيت في الفرع حوالي ثلاثة أشهر، وكانت التهمة التواصل مع الغوطة والإرهابيين فيها وتمويل الإرهاب، وكان الضغط الأساسي عليها لانتزاع المعلومات عن أخويها المحاصرين في الغوطة وعن أصدقاء هذين الأخين وعن صلة الوصل مع الغوطة . سُئلت عن قصص كثيرة لم تكن تعرف جواباً لها، وعن أشخاص لا تعرف عنهم غير أسمائهم، وتم الضغط عليها بالضرب والإهانات والمنفردة وتهديدها بجلب والدتها وتعريضها للكهرباء .
وانتهت فترة التحقيق معها بعد أن تأكد المحققون أنها فعلا لا تعرف شيئا وأن التقرير الذي كُتب عنها فيه كثير من المعلومات المغلوطة .وتم تحويلها إلى سجن عدرا بعدما وقعت على أوراق كثيرة لم تعرف ما بها .
في سجن عدرا اكتشفت أنها تحت الإيداع وقيد المحاكمة في محكمة تمويل الإرهاب بتهمة دعم المسلحين وتمويل الإرهاب .
قضت في سجن عدرا خمسة أشهر ، وقد فاجأتني حين قالت لي إن الفرع رغم وسخ المكان والرائحة والرطوبة والحشرات والخوف من المحققين والضرب ، أرحم من السجن ، وأن أيام عذابها الحقيقية بدأت مع دخولها السجن .
في السجن توضع السجينات في المهاجع التي تضم سجينات من كافة الجرائم القضائية والسياسية . والسجينات السياسيات يكن تحت رحمة سجينات جرائم القتل والدعارة . التعاطف ممنوع داخل السجن مع سجينات الإرهاب وكل السجينات السياسيات هن سجينات إرهاب ، وممنوع التواصل فيما بينهن ، وأي نوع من أنواع التواصل والتعاطف على وجه التحديد ، يؤدي الى المنفردة والضرب .
طبعا لم تعرف الصبية هذه المعلومات مجانا، وكونها كانت تحمل نقودا عند اعتقالها مكنها من الاتصال بأهلها وتوكيل محامٍ عند دخولها السجن ، والبدء بالزيارات لها . فوجئت أن أعداداً كبيرة من النساء مضى لهن في السجن حوالي ثلاث سنوات وأربع سنوات بتُهم الإرهاب ، وأهلهن لم يعرفوا عنهن شيئا ولم يستطيعوا الاتصال بهن لأنهن لا يملكن نقودا . وعندما أعارت بطاقتها لزميلة تعرفت عليها في الزنزانة لتتصل بأهلها هاتفيا وتخبرهم عن مكان وجودها، وشت بها إحدى فتيات الدعارة للعقيد آمر السجن ، وكان نصيبها الضرب بالعصا والحبس في المنفردة لمدة سبعة أيام .
أيضا من يملك المال يستطيع شراء الخضروات من الندوة في السجن والطبخ والذي لا يملك يأكل أكل السجناء السيء جدا ، وعندما تعاطفت مع إحداهن وقاسمتها طعامها كان نصيبها العقاب مرة أخرى والمنفردة، واكتشفت في العقاب الثاني أن هناك شبكة من فتيات القتل والدعارة موزعة على كافة المهاجع تقوم بنقل كافة التفاصيل التي تجري بين السجينات للعقيد مقابل مزايا تمنح لهن .
حكت لي عن تقرير ’كتب بسبعة نساء في مهجعها ، وتم تحويلهن جميعا إلى الفرع لإعادة التحقيق معهن بتهمة التواصل مع جبهة النصرة أربعة من هؤلاء النساء سافرات ولا يعقل أن يكون لهن علاقة بالنصرة ، وعندما رجعن للمهجع بعد التحقيق الذي استمر أياما كانت آثار الضرب والتعذيب بادية على وجوههن . وإحداهن قالت عندما دخلت المهجع ( الله لا يوفق الذي كان السبب) وتقصد الفتاة الواشية . بعد عدة ساعات من كلمتها هذه دخل عناصر السجن إلى المهجع وأشبعوها ضربا لهذه السيدة أمام جميع السجينات .
أصابها هذا العقاب المتكرر بالخوف من كل من حولها، كونها لم تستطع الكلام والتواصل مع زميلاتها ، ولا أن تميز بدقة جرائم النساء المحيطة بها، مما جعلها تلزم الصمت والتكور في إحدى الزوايا في مهجعها بمفردها ، تكتفي بالمراقبة ودون التواصل مع أحد ، وترافق هذا مع وضع صحي سيء حيث لم تأتها دورتها الشهرية لمدة خمسة أشهر متواصلة وعندما سألت إحدى الممرضات عن السبب فوجئت أن المياه تحوي مادة الكافور وهي السبب في انقطاع الدورة .
حضرت جلسة تحقيق واحدة في محكمة الإرهاب سمعت خلالها من عناصر المحكمة كلاما عن أن المال حلال المشاكل .وبالتواصل بين أهلها والمحامي والقاضي المسؤول تم إخراجها من السجن بعد دفع ثلاثة ملايين ليرة سورية للقاضي ، مع تمرير معلومة أن أي سجينة من زميلاتها تستطيع الخروج مهما كانت تهمتها ، إذا استطاعت توفير المال المطلوب والتواصل مع المحامي وكل تهمة لها مبلغ يقابلها .
الآن هذه الفتاة لديها خوف مرضي من كل شاب يلبس لباسا عسكريا حتى لو كان من عناصر الشرطة أو الدفاع المدني .لا تستطيع الخروج إلى الشارع كونها تخاف من كل الأعين وأن يُعاد اعتقالها مرة أخرى .أسماء و قصص السيدات الممنوعات من الزيارة يثقل كاهلها ويمنعها من النوم وتحلم بتأمين مبالغ طائلة للمحامين للإفراج عن زميلاتها المعتقلات .
ويبقى لنا حلم أن نكتب عن تجربة هذه الفتاة وعن باقي السجينات بالأسماء الحقيقية عندما ننعم جميعنا بقدر قليل من الحرية والامان.
خاص “شبكة المرأة السورية”