ناهد بدوية
لم تعد الفنون النسوية الجديدة تناضل من أجل انتزاع حقوق المرأة بل أضحت تهتم بعرض رؤيتها للعالم والبحث عن عالم بديل أفضل. عالم متوازن يبنيه مفرد الإنسان، ومفرد الانسان اثنان، ذكر وأنثى. فقد أضحت الحاجة اليوم الى عالم يبنيه الإنسان المكتمل مسألة حياة أو موت الوجود البشري على هذه الأرض. وما العوار الذي يشهده العالم الراهن سوى نتيجة غياب أو ضمور العين الأخرى للإنسان، تلك العين، عين المرأة، التي بدأت تتعافى منذ أواسط القرن العشرين، بعد أن تلقت العلوم والفرص ذاتها التي يتلقاها الرجل ومن ثم بدأت بالتعبير عن نفسها وعن رؤيتها للعالم. وفي معرض للصور الفوتوغرافية، أقيم مؤخراً في باريس، اشتركت ست مصورات فنانات من الشرق الأوسط، اتخذن فن التصوير الفوتوغرافي للتعبير عن رؤيتهن وفهمهن لهذا العالم، وبحثت عدسات كاميراتهن عن الحياة في وسط الخراب، وعن الخطأ في زوايا هذا العالم المليء بالعنف والحرب… وصرخن صرختهن عالياً : ابحثوا عن الخطأ.
في هذا المعرض جمعت الفنانات المشاركات فن التصوير الفوتوغرافي مع فن التنصيب ( (installation art هو أحد تيّارات الفن المعاصر حيث يقوم الفنان فيه بتنظيم مكان أو مشهد وذلك بتركيب أو نصب أشياء وعناصر ومواد جاهزة او رسمها بهدف إعادة تشكيل العالم وإدخال رؤية الفنان ورسالته التي يريدها أن تصل للمتجول في هذا المكان أو المتأمل لهذا التنصيب. ويجمع الفنان عادة كل الفنون من رسم وسينما وصوت وصورة. وفي معرضنا هذا وظفت الفنانات المشاركات الأعمال المركبة عبر تنصيبها أولا ثم تصويرها كي نستعير رؤيتهن عما يحل بالعالم من خراب.
عندما تتجول في هذا المعرض الذي استضافه معهد ثقافات الاسلام في باريس، تصل لك مباشرة وجهة نظر الفنانات المشاركات في صورة العالم الحالي، وتستطيع أن تكتشف ما الدخيل على الحياة اليومية للبشر، تلك الحياة التي ستستمر إلى النهاية رغم كل العوائق. والاكتشاف لن يكون صعبا فسرعان ما ترى أن كل ما يتعلق بالحرب والعسكرة والأسلحة هي ذلك الشاذ على حياتنا. وهي ما يعكر صفو أيامنا فكيف السبيل الى المقاومة؟ جاءت الاجابة من ست نساء فنانات من المنطقة العربية وايران، كل على طريقتها، وهي اجابات أتت من الشرق الأوسط حيث تشكل الحرب مشهدا يوميا من يوميات البشر هناك.
الفنانة الإيرانية شادي غاديريان: مصورة فوتوغرافية من ايران أدخلت الرموز العسكرية في المساحات الحميمية للناس على نحو مستفز وذلك للتنديد بما تفعله الحرب في تشويهها للحياة.
الفنانة الفلسطينية تانيا حبجوكة عرضت مجموعتها الفوتوغرافية تحت عنوان “مسرات محتلة صورتها بالضفة الغربية المحتلة في فلسطين، حيث يُترجم الاحتلال على نحو مباشر عبر مصادرة حرية التنقل وانتشار الحواجز. تظهر مجموعة الصور هذه محاولات السكان اختراع مقاومة لمثل هذه المصادرة عبر اختراع اساليب متنوعة للهرب من هذا الحصار الخانق.
الفنانة المصرية نيرمين همام: تحمل مجموعتها اسم “الكاوبوي وسكان الأرض الأصليون”، وكانت قد انجزتها خلال رحلتين لها من الولايات المتحدة، مكان اقامتها، إلى القاهرة بعد الثورة المصرية. تظهر فيها الفارق بين الحقيقة المعاشة على الأرض وطريقة التغطية الاعلامية لها. وتدعو الجميع الى التأمل والتفكير في الأساليب التي يتم بها التلاعب بالصورة من قبل الوكالات الإعلامية المختلفة في نقل الحدث.
الفنانة الفلسطينية رائدة سعادة: تكتشف في أعمالها الأسئلة المتعددة المتشابكة عن مسألة الهوية للمرأة الفلسطينية عبر إظهار التناقضات في حياتها اليومية المعاشة عبر تفاصيل من السخرية والاحباط.
الفنانة الإيرانية جوهار داشتي: تبحث في مجموعتها “يوميات الحياة والحرب” في آثار الحرب على الذاكرة الجمعية للشباب الإيراني الذي عاش ويلاتها من خلال زوجين في حياتهم اليومية.
الفنانة الفرنسية الجزائرية زليخة بو عبدالله حولت الأشكال الهندسية والزخارف في الفنون الاسلامية بادخال طائرة الميراج فيها. لقد رأت في طائرة الميراج العسكرية رمزا حاملا لكل معاني التداخل في المعاني بين ما هو ثورات انطلقت على أرض الواقع ذات مطالب ديمقراطية واقعية، وبين مآلاتها التي سارت باتجاه جعلت حلم بناء مجتمعات ديمقراطية أشبه بحلم مكسور، أشبه بـ “السراب” وهو الترجمة الحرفية لكلمة “ميراج” بالفرنسية.
إذن كما رأينا، لم تعد المرأة تعنى بتحرر المرأة، بل بتحرر البشرية بأسرها. ولذلك أصبحت الرؤية النسوية الحديثة أحد التيارات الفكرية العالمية. لأن خصائص الجنس البشري وصفاته ومصيره هي حاصل تشابك رؤيتين وفعلين، وشراكتهما حتمية وإجبارية، وضرورتها تتأسس على ضرورة الاجتماع البشري ذاته. وقد بدأت الأفكار النسوية الحديثة تجني بعضاً من ثمارها، فالدول والأحزاب والمنظمات وجميع برامج التنمية أصبحت معنية بالمشاركة النسائية في مختلف نواحي الحياة وتشترطها. ولكن الجهد النسوي ما زال ضرورياً أيضاً، من أجل أن تبقى الرؤية النسوية حاضرة في هذه البرامج، وكذلك من أجل تقوية رؤية العين الأخرى للبشرية، أي عين المرأة، التي ما زالت ضعيفة، لذلك ما زلنا نشهد غبش الرؤية بعد أن كانت عوراء تقريباً. وما رصدته عدسة فناناتنا هنا ليست إلا إحدى المحاولات الساعية إلى إزالة الغبش الحالي في عين البشرية.
خاص “شبكة المرأة السورية”