سلوى زكزك
على باب البناء المرتّب، بالون أزرق كبير ومكتوب عليه بالإنكليزية “he is a boy”، بمعنى إنه صبي.
وعلى الأدراج زينة ورقيّة زرقاء وفضية، ثمّة ضيفٌ جديد أتى حديثاً إلى هذا العالم، لاشيء يشي بأنّ الحرب قد مرّت من هنا، احتفالاتٌ بارزة للعيان وفرحٌ طفوليٌّ يعمّ المكان.
في الطريق امرأة حامل في شهرها الأخير، تترنّح في مشيتها، تجرّ بكلّ يدّ ولداً، ثلاثة أبناء، يتقاسمون عمر الحرب، بفارق ثلاث سنين، أو أقلّ بين الواحد والآخر، تدخل السيّدة محلّ منظّفات، تشتري أكواماً من “الحفوضات” رقم واحد، أي الأصغر، وكلونيا للطفل حديث الولادة، وبودرة وصابون جونسون باللوز والغليسيرين، تشتري شامبو لها وكريم للبطن ومشدّات ومنظّفات، تملأ بها سيّارتها المركونة وتمضي.. لا شيء هنا يشي بأنه ثمّة أزمة ماليّة ما، أو أسعار مرتفعة تفوق قدرة السيدة على الدفع والشراء، يبدو جليّاً أنّ الحرب لم تمرّ من هنا أصلاً. في حيّ آخر، أستوقف الأمهات الحوامل؛ قليلاتٌ من تعترضن على حملهن، وتتذرّعن برفض الأهل والزوج أو الأطباء إجهاض الجنين غير المرحّب به في ظلّ حرب شعواء، تُنقل فيها البيوت مع أصحابها من حالة الثبات إلى الشتات.
سيّدة أخرى، فرحة بحملها. تقول لي: أنا عروس جديدة، ولا أعرف متى ستنتهي الحرب، ولن أستعمل أيّ مانع حمل قبل حصولي على طفلي الأول. تبدو كلمة “حصولي” وكأنّها امتياز، وكأنّها منحة لاترد، ولا يمكن رفضها. لم تقل أشتهي أن أصبح أمّا والحرب طويلة، قالت بما معناه بأنّني لن أجازف بإصابتي بالعقم بذريعة الحرب.
تبدو الحرب هنا مجرّد ذريعة واهية لمناهضي الأمومة، للجمعيّات التي تعمل وبحماسة على تحديد النسل، وكلّ ما بوسعها فعله هو توزيع موانع حمل وواقيات ذكريّة. وفي حال الإنجاب رغما عنهم وعن خططهم، تستبدل خطة الموانع بالخطة “ب”، وهي خطّة صارت مدعاة للفكاهة. فكلّ سوريّ وإن عجز عن شراء حذاء جديد، يسخر من نفسه ومن ظروفه ويقول: خلص سأشتريها بالخطة “ب”. بعد السنة الثالثة للحرب، استعادت السوريات أدوارهن الإنجابيّة، ولدن الثاني والثالث بعد توقّف مقرّر ومبرر. من كانت تنوي الهجرة والرحيل خطّطت لحمل سريع، لأنّ الأطفال بوابات عبور للعائلات، ومصدر دخل شهريّ ثابت في بلاد طاقتها الإنجابية في حدها الأدنى. بضع سيّدات ترسلن شامبو الأطفال والملابس المجانيّة والأدوية لأبناء أقاربهن في سورية، كهدايا قيّمة و”تفشّ” القلوب المثقلة بالتعب والفقر. أسأل سيّدة تكاد تجرّ نفسها جرّاً، وبطنها يهتزّ أمامها، عن سرّ قرارها بالحمل في ظلّ حرب مرعبة، إن ليس بالرصاص وحسب، ولكن بالعجز الماديّ والماليّ، وارتفاع تكلفة الولادة والرعاية، وطبابة الحامل والطفل، والألبسة و”الحفوضات”، فتضحك قائلة؛ عمري ثمانية وثلاثون عاماً، متزوجة منذ سبع سنين. وحملي تمّ بواسطة طفل الأنبوب، وهذه قد تكون فرصتي الأخيرة!!.. أسألها؛ هل مازالت هذه التجارة منتعشة؟ تجيب؛ نعم وأكثر من قبل.. وعيادات التخصيب مشغولة بشدّة وكثافة، ونحجز الدور قبل مدّة طويلة. أسألها عن التكلفة، تقول باهظة جداً، وتمتنع عن ذكر الأرقام، لكنّها تركّز على ارتفاع قيمة التحاليل والمواد المخصّبة، وأجور الأطباء، دون تحديد الأرقام. أسألها عن مصدر كلّ هذه التكاليف. تجيب؛ بعت سواري، وأخوي أرسل لي بعض المال من المهجر. أصمت احتراماً لحقّ الأمومة، ولفرصتها في الإنجاب. لكن أسئلة كثيرة تطرق باب رأسي وتؤلمه.
في الحديقة العامة حيت تعيش بعض الأسر التي بلا مأوى، أحصي عشرات الأطفال دون الرابعة، ونسبة كبيرة منهم ترضع في العراء من صدور أمهاتهم الضئيلة المرتخية، وشبه الضامرة والجافة، كلّ الأمهات تقول إن الحمل والولادة ومجيء الأطفال إلى هذا العالم الرثّ والخرب،هو تدبير إلهي، وتؤكدن بأنّهن لا تتدخلن في مشيئة الله. يمرّ جرذ بحجم رضيع أمام وجه طفل نائم، لا تكترث الأمّ ولا تصرخ. يمرّ الجرذ بسلام وأمان يفوق أمن وسلام الأطفال القابعين هنا، في عراء الشمس والبرد والريح والقذارة والجوع والتحرّش، وغياب الأب والأهل والوثائق الرسمية. كلّهم غير مسجلين في دائرة النفوس، كلّهم بلا مدارس وبلا لقاحات أيضا.
على مقلب آخر، تجاهر أمّهات سابقات بقرارهن التوقف عن الإنجاب، معظمهن أمهات لطفلين، وكنّ قد قرّرن سابقاً إضافة طفل ثالث للعائلة، لكنهن يتمنعن الآن، إما بسبب طول واتساع الفترة العمريّة مابين الطفل القادم، وآخر طفل ولد في العائلة، أو بسبب الغلاء الفاحش، أو التفكير بالسفر، أو لتحوّل شروط عيشهن من بيت ملكيّة خاصة إلى وضع الإيجار، أو العيش المشترك مع العائلة الأم أو مع أقارب،أو في شروط سكن ضيّقة وسيئة جداً ومرتفعة التكاليف.
بعض النساء الحوامل، تتبختر في أزياء الحمل الخاصة، تحبّ شكلها وهي ترفل بصحّة وافرة، وتشكو من الريجيم القاسي الذي ستخضع له بعد الولادة لاستعادة شكلها وقوامها الأول قبل الحمل. بعضهن تنجبن نكاية بالحرب، وتقلن إن ضمّة وليدهن تساوي العالم بحاله. أسألها عن خوف الأبن من الأصوات، من الرصاص، عن خوفها على أبنائها من المرض، وعدم توفّر المستشفيات، أو الطرق الآمنة والسيارات لنقلها عند المخاض. يضحكن، وبعضهن يقلن؛ الحرب قد تدوم، لكنّ الأمومة لم تتوقف ذات يوم ولن تتوقف. بعضهن وبفذلكة خائبة تقلن؛ راح الكثير ونحتاج الكثير!
بانتظار رحيل الحرب أو توقفها، ثمّة أجنّة كثيرة العدد تنمو في أحشاء نساء ليصرن أمهات، أمهات فقط، ويكفيهن ذلك.
خاص “شبكة المرأة السورية”