إنانا حاتم
فتحتِ البابَ بيدينِ باردتين, صَريرهُ سابقَ أنفاسها, طأطأت رأسها ودلفت للداخلِ, القنطرةُ ليست عاليةً بما يكفي لترفعَ رأسها, والعتبةٌ العتيقةُ المصبوبة بالإسمنتِ والحصا البارزةِ، تَعِدُ كلَّ مَن يَدوسها ولا يحني رأسهُ، بالسقوطِ لتقبيلِها.
هو البيتُ ذاتهُ الَّذي بُني للجدّة الأرملةِ منذُ قٌرابةَ قرنٍ مَضى، وبعدها استقبلَ العمّةَ المُطلقةَ, وقد جاء دورها لتسكُنَ فيهِ, يطلقون عليه “بيت المقاطيع”، وهو عبارة عن غرفة جرت العادة أن تتوفر لدى كل العائلات احتياطياً من أجل النساء اللواتي تنقطع حياتهن الزوجية فجأة أو من أجل “العوانس” من نساء العائلة.
الجدرانُ مازالت مُحمّلةً بخيالاتِ وصُور نساء العائلة من الجدّات والعمّات اللواتي تناوبن على العيش في هذا السردابِ.
برغمِ كلِّ عملياتِ التَّنظيفِ التي قامت بها إلا أنّ آثار من سبقنها إلى سكناها مازالت معلّقة ًبالفراغ هناك: أحاديث العمَّة وتنهداتها تنساب من الزوايا لتؤرقها، نواح الجدّة, يعود كلّ حين, ليقضّ مضجعها ويفزعها!
دارت عيناها في المكان وتوقفت عندَ بابِ السِّردابِ المُطلّ على الغرفةِ, فاللَّوحَ الخَشبيَّ الذي أُغلقه ُلم يمنع ذاكرتها من العُبورِ لداخلهِ.
عادَ صوتُ والدتِها منذُ أربعينَ عاماً وهي تصرخُ عليها مؤنّبةً لرفضِها النَّومَ مع جدّتها الوحيدة, كانت تبكي وتترجّى والدتها: “الله يخليكي يا أمي أنا كثير بخاف نام عندها”.
لكنَّ الوالدةَ وكانت قد قررت أن تنامَ كلَّ يومٍ واحدة من بناتها عندَ الجدّةِ، لم تستجب لتوسلاتها وأجبرتها على النوم مع الجدّة, أقسمت فاديا يَومها لأخواتها ولأُمها أنَّها سَمعت أصواتاً تُناديها مِن داخل السرداب المغلق!
اتكأت على ذلكَ البابِ وبدأت تَبكي كما لو كانت لا تزالُ صغيرةً مرددةً:
“آه يا ستي جاء اليوم الذي أجلس فيه مكانك، ولا أحد من أحفادي سينام عندي!”.
نَفضَت عنها شبحَ الجدّةِ وبَدأت تَتذكر أولادها مُتحسرة، فالحرب كانت قد شتّتهم وبعثرت أحلامها فيهم، هي من تحتاجُهم كلَّ يومٍ أكثر. الغصَّة تكبر كلَّما تذكّرت ابنتها وملامحَ الرعب على وجهها عندما دخلت ورأت والدها في نوبة جنونه يضربها، أمّها وزوجته وشريكة حياته مدة خمسة أربعين عاماً، خلّصتها بصعوبة من بين يديه وهرّبتّها لبيت جدها. بأيّ عين ستراهما بعد اليوم؟
لم يكن لديها الكثير من الخيارات فأبناؤها هاجروا وابتعدوا عن بلد لفَّهُ الغضبُ والقهُر وحاصرهُ الجوعُ والموتُ. وحدها ابنتها من بقيَت لتشهدَ على انهيار ذلك الصَّرح الأُسريّ الذي نَخَرَت الحربُ اِستقرارهُ وأغرقَ الفقر والخوف آماله.
هزّت رأسها وضحكت ساخرةً عندما تذكرت كلامهُ :”البلد خربت من وراكن أنتي وأولادك”! كانَ الخلافُ بينهما يزدادُ مع تسارع الأحداثِ على طريقةِ تفسيرِ الكثيرِ من الأمورِ، وكأنَ هذه ِالحرب عصَفت بكلّ البيوتِ وبعقول الناس، فأيقظت غضب الرجال وبعثرت أرواحهم المُهترئةِ, إنه نوع من الاكتئاب أصاب زوجها كالكثيرين بعد أن أثقلت الهموم وظروف الحياةِ كاهله، فبدأ بإلقاء اللوم على الحلقةِ الأضعف وهي زوجته. كلّ يومٍ تصحو لتجده يزدادُ عنفاً ويصبح أكثرَ سوءاً إلى أن قررت الرحيلَ مرغمة عن منزلهما الذي بنته بألمها وصبرها وأدمنت تفاصيله.
سمعت صوتَ ابنتها تطرقُ بابَ الغرفةِ, أسرعت لتخلعَ عنها الحُزنَ وفتحت البابَ مبتسمةً ومحاولة ألا تشوّش نظرة ابنتها التي تزوجت حديثاً عن تجربة الزواج, مردّدةً على مسامِعها: “ليس جميع الرجال مثله.. وجيلنا غير وانتو جيلكن لازم يكون غير…!” تذكّرت كلمات عمّتِها, قبل خمسينَ عاماً قالت لها أيضا: “جيلكن غير..”!
لكنها الدوّامة ذاتها تلفُّ نساء الأجيال المتعاقبة خاصة في ظروف زادتَها الحربُ قسوةً وقهراً وضبابية!
ابنتها التي درست المحاماة, حدّثتها هذه المرةَ بصراحة عن الطلاقِ وقوانينهِ في بلادنا والتي لا تنصفُ المرأة إطلاقاً!
وعندما أخبرتها أنَّ المحكمةَ ستحكمُ لها عن كلّ سنةِ زواج بخمسة آلافِ ليرة ًفقط, ضحكت بصوت هستيري يكاد يشبه الصراخ، نبهتها ابنتُها لكنَّها لم تتوقف, إلى أن ختمت ضحكتها السَّاخرة قائلة: “يعني بعد خمس وأربعين سنة زواج بأخذ تقريباً ميتين ألف ليرة؟!”
“لو جارية كنت أخذت أكثر! أو…. لو اشتغلت بالدعارة كان أحسن!”. وعادت لتضحك وتضحك باكية.
رحلت ابنتها وهي تقدم لها وعوداً أن تسعى جاهدة لتغيير هذا القانون الظالم وأخبرتها إنّ الكثيرات يطالبن مثلها بتغييره وطمأنتها بأنه سيأتي يوم يسود فيه العدل.
حاولت فاديا أن تنام في أول لياليها في “بيت المقاطيع”، لكن الكثير من الصور كانت تحاصرها، صوت والدها الذي بدأ يتدخل بكلّ حركة تقوم فيها، ومجتمعها الذي فتح عينيه على وسعهما ليراقب خطواتها، والحرب التي حرمتها أولادها وشتّت شملهم, وخيبتها بزوج قدمت له حياتها فتركها على حافة العمر تتلقّى ضربات القدر وسكاكين العادات التي أدمت قلبها وخنقت داخلها الأمل. نعم، نصل القوانين مازال بيده هو!
فجأة ناداها صوت عتيق ولمع لها من داخل السرداب شعاع نور، فلملمت ترانيم روحها ومسحت قهر قلبها وانطلقت إلى هناك تتمايل باتجاه سرمديّ الشكل واللون.
عند الصباح أسرعت ابنتها لتطمئن عليها. طرقت الباب فلم تجد جواباً، وبعد أن زاد قلقها، دفعت الباب بكلّ قوتها, فانفتح بصريره المسعور لكنَّها لم تجدها في الغرفة, نادت عليها بصوتٍ مرتعشٍ، وفجأة وقعت عيناها على بابِ السِّردابِ، سَرت قشعريرةً في جسدها، فهو مازالُ مشقوقاً!
أسرعت متلهفةً للداخلِ, بحثت كثيراً عنها لكن بلا جدوى، نادت بكلّ قوتِها، لكن ما من إِجابة!
ومازالت تبحثُ عنها وعن أملٍ ينتظرُها هي والكثيرات، حيث شعاع بسيط من الضوء مازال يمكن رؤيته بين متاهةِ الحربِ وبابِ السِّرداب.
خاص “شبكة المرأة السورية”
2 Responses
بسلاسة وسرد مشوق إستطاعت إنانا تصوير بعض من واقع المرأة في مجتمعنا ،والأجمل هو النهاية المفتوحة على الأمل والعمل للخروج من هذا الواقع وعدم الإستسلام
جميل ما كتبت انانا..واقع مرير وظلم بيد المجتمع والقانون معا