سلوى زكزك
مجرّد إعلان صغير على ورقة باهتة … نريد عمال صالة، نريد صبي حوّيص، نريد عمال لتوصيل الطلبات، بحاجة إلى أراكيلي، بحاجة إلى عامل صغير من نفس الحي …
لا يمكنك أن تشهر الميكروفون أو الكاميرا وتتوقف بكل بساطة، لتجري لقاء مع طفل صغير متّشح بالهباب والشحم، يجر الكريكو إلى تحت السيّارة المتوقّفة للتصليح، لأن ربّ العمل سيطردك وسيسخر منك ومن أسئلتك. فالصبية العمال، هم مجرّد كتل لحم شاردة وأفواه جائعة تبحث عن أيّ مصدر للمال.
طفل في الصف الأول، مازال يلثغ ببعض الأحرف، ويخاف من أخيلة العابرين ومن صوت صاحب السوبر ماركت، تتّصل أمه بالمعلم، تبكي وهي تتوسل إليه عدم طرد ابنها لحاجتها الماسّة لأجره. يقول لها: “ابنك مهذّب وأمين لكنه صغير جداً يا أختي، صغير لدرجة يبكي من تعبه وشوقه لك مرات، حرام يا أختي بكير عليه، اتركيه يلعب وينام”.
يرتفع صوت بكائها، وتقترح إرسال ابنتها ذات السنين التسع بدلاً منه، يغزو الحمق رأس المعلم، ويصرخ: “بنت وتسع سنين سترسلينها لبقالية؟ ألا تخافين عليها؟”. أخرج بعد أن يرفض المعلّم السماح لي بسؤال الطفل أيّ سؤال.
طفلان يجادلان صاحب مكتبة للعمل لديه. يقول لهما أريد عاملاً واحدا، يردّان معاً: “اثنان بأجر واحد. يقول لهما: “أعطوني رقم أبيكما لأسأله”. يردان بحماس وثقة: “أبانا ميت وأمنا موافقة وهذا رقمها”.
يفاوض مصلّح الدراجات طفلاً يصلح دراجته المتهالكة عنده، ويقول له: “من أين تعلمت تركيب الخرادق وتثبيت الجنزير؟ يقول له أبي علمني. ويسأله عن رغبته بالشغل في محلّه، فيجيب: “أبي مصرّ على عملي في فرن معجنات”، ويخرج.
بعد يومين التقيت بالطفل ذي السبعة أعوام عند بائع الخضار بعد أن طرده صاحب البقالية، كان يسعل بشدة، لأنّ عمله هو تعبئة الفواكه المهترئة في عبوات كبيرة وقذرة, ويبدو أنه قد تحسّس من رائحة حموضتها اللاذعة. أسأله عن أخته, يقول لي إنها تعمل عند الحلاقة, تكنس وتمسح وتنشر المناشف وتخلط الصبغة, الصبغة والأوكسيدات والملونات لطفلة في التاسعة! وأسأله عن الأجر فيقول لا أعرف, أمي تقبض أسبوعيّتي وأسبوعيّتها.
على باب الصالة، يمرجّح فتى سلّة الفحم المتّقد المعدّ للأراكيل، مهنته إيقاد الفحم وتجميره بمرجحته بالهواء وتقديمه للزبائن متّقدا دوماً، يعمل من السابعة مساء وحتى السابعة فجراً موعد إغلاق الصالة. يتجاوز الثانية عشرة بأشهر قليلة، يضحك بعذوبة، ويشكو من الجوع والنعاس، فصاحب الصالة يقدّم له وجبة واحدة شحيحة جداً من بقايا الزبائن وبذات الأطباق، عدا عن النوم المستحيل. أجره مياومة، والبقشيش بالسرقة، وعندما يراه المعلم يقبض أيّ بقشيش يصادره فوراً.
عند مصلّح الأحذية، يتضاحك المعلّم مع فتى يطلب العمل، يقول له بخبث وتسلّط: “في فلقات”، فيستلقي الطفل بمرح وتقبل، ويرفع قدميه ويقول تفضل اضرب! ويعقّب قائلاً: “مسموح فلقة واحدة في اليوم”. يوافق المعلّم على تشغيله، لأنه يحب الكدعان والفرايحيين كما يدّعي. والأجر ستمئة ليرة أسبوعياً من العاشرة صباحاً وحتى الثامنة ليلاً.
صبيّ توصيل الطلبات يوصل الفطائر الكثيرة العدد وينتظر، تنقده المرأة عشر ليرات. يكرّر قائلا: “إنهم أربعون فطيرة”، فتطبق الباب في وجهه. أغلب عمال التوصيل يعملون بلا أجر من رب العمل، ويعتمدون فقط على إكراميات الزبائن. في إحدى المرات كنت حاضرة على ضرب لاسع على وجع عامل توصيل لأنّ أحدهم رأى العامل يلتهم شريحة بطاطا سحبها من إحدى السندويشات ووشى به لمعلمه. أحياناً ونادراً تكون أجرة التوصيل سندويشة بكاملها، وذات مرّة كان صبيّ التوصيل يتناول السكر المتبقي في السكرية أثناء إعادته لكؤوس الشاي للمحل.
يتبدّل العمال بسرعة كبيرة، فالعرض أكثر من الطلب، والأجور أقل من زهيدة، لكن الحال يسمح بالتعالي حتى على العمال الفقراء والفاقدين لكل شيء.
على باب الحلاقة الرجالية، طفل ذليل وأمه تستجدي المعلم وهو يصرخ بهما: “ابنك وسخ، مهنتنا شرطها النظافة، وأنا أخبرتك من قبل أنني كنت أُضرب من معلمي أيضاً. الصنعة تتطلب الشدّة”. فتقول له باكية: “اللحم لك والعظم لنا، المهم أن تبقيه عندك”.
عند مصلح الراديترات، وفي محلّ صغير ممتلئ بالماء الفائض عن التجريب والتصليح، يعمل فتى بمهارة، ويقول معلمه بأنّه موهوب وأمين، لكن القصة تكمن في رجاء العامل المستر لمعلمه كي يسمح له بالمبيت في المحلّ لأنّه بلا مأوى. يخاف صاحب العمل، مع أنه لاشيء يمكن سرقته هنا، والمحل صغير جداً. يخاف بأن يسرقه الفتى أو أن يدعو رفاق السوء للرذيلة أو التحشيش، تخيّلات غير واقعية وأكبر من عمر الفتى ومهاراته وحاجاته. لكن صاحب العمل يضخّمها طامعاً في تبرير حاسم وقاطع ونهائي.
أمّا الفتى العامل لدى صاحب المول، فقد تحوّل عمله إلى المنزل بعد أن راق للزوجة. بات يأخذ طلباتها من المحل إلى المنزل، ويرمي القمامة كأنّه ابنها الصغير، ويأخذ ماتريد إرساله لأهلها. بات أجيراً بالجملة، وفي مرّات طلبت منه شطف المطبخ.
مجرّد إعلان صغير كافٍ لنبش المعلن ورميه في وجوهنا، متعباً، مقرفاً وموجعاً. الكلّ يتباهى بذكائه الخارق في التلصلص على عمّاله، على اختبار أمانتهم بطرق سخيفة وممجوجة، على التشكيك في أصولهم وأسمائهم وحقيقة أوجاعهم، وحتى في لون عيونهم.
لم تعد عمالة الأطفال مجرّد مشكلة أو علامة فارقة في سيل كل هذا الخراب، هي نتيجة صارخة للحرب، هي الحرب ذاتها تدور رحاها في كلّ البيوت، وفي قصة كلّ طفل عامل، وعلى شفاهه وفي العيون الحزينة والأجساد المرهقة والذائبة.
حين تشيخ الطفولة، تصبح عمالة الأطفال مجرّد نقطة سوداء، لكن بلا سطر … بلا قرار أو مستقر، مجرّد هاوية وننزلق إليها بخفّة وشدّة.
خاص “شبكة المرأة السورية”