لونا وطفة
“امتلأت بطونهم ولازالوا يطلبون المزيد، لقد أصبحت تجارة مربحة“
هكذا أخبرني المحامي “ح.م” الذي يتولى كثيراً من قضايا المعتقلين السياسيين كواسطة بين أهل المعتقل و بين من يقبض ثمن إخلاء السبيل منهم.
لم تقم محكمة الإرهاب منذ نشأتها على أساسٍ قانوني، كما يصرّح أكثر المحاميين الذين تعاملوا مع قضاياها، فهي لا تعدو كونها بديلا عن محكمة أمن الدولة تمّ إنشاؤها عقب إلغاء قانون الطوارئ واستبداله بقانون الإرهاب، وبغض النظر عن التسميات، ليس مسموحاً للمحامي في تلك المحكمة ممارسة دوره في المرافعة والدفاع عن المتهم بعد أن فُتح باب السمسرة على مصراعيه علانية مضيفاً وجهاً جديداً للفساد ضمن المنظومة القضائية السورية.
توفّر للنظام السوري منذ بداية الثورة السورية موارد تمويلية شتى أمدّته بأسباب الاستمرار حتى اليوم. لستُ خبيرة بالشؤون الاقتصادية، لكني أريد إلقاء الضوء باختصار على ما أراه دعائمَ أساسية ساهمت في صمود النظام السوري اقتصادياً وتنقسم تلك الدعائم إلى فرعين اثنين : الدعم الخارجي والدعم الداخلي
أولاً: الدعم الخارجي
ويتمثل بالدوافع الجيوسياسية لعدة دول أبرزها إيران وروسيا، حيث عززت الواردات والقروض وخفض الرسوم الجمركية صمود النظام اقتصادياً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، صعد حجم التبادل التجاري بين إيران ودمشق من 430 مليون دولار في العام 2010 إلى 869 .مليون دولار في العام 2014 حسب مؤسسة تنمية التجارة الإيرانية
إضافة إلى الدعم الإيراني والروسي ومع تردي الأوضاع الأمنية على امتداد الجغرافية الشرقية لسوريا، لعبت عمليات بيع النفط الخام التي تقوم بها ما تسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” للنظام بالليرة السورية دوراً داعماً لا يمكن إغفاله إذا أخذنا بعين الاعتبار سعر البرميل المُباع والبالغ 20 دولاراً للبرميل الواحد في حين بلغ سعره في السوق العالمية 103 دولارات قبل بداية 2015. ساهمت دولة العراق والشام بذلك في حماية الليرة السورية وأمدت النظام بالنفط الخام الذي لم يُعرف مصيره بعد وصوله ليد النظام السوري
ثانياً: الدعم الداخلي
تتعدد صور الدعم الداخلي لدرجة يصعب حصرها وسأعرض لثلاثة جوانب منها
رؤوس الأموال وأصحاب الأرصدة والصاغة والصرّافين –
راجت ظواهر النهب والخطف لأجل الفدية بشكل كبير مع بداية الثورة السورية، ويتعرض أصحاب رؤوس الأموال غير الداعمين لمصالح النظام للسرقة من قبل مجهولين أو يجري اعتقالهم تبعاً لتهمٍ مختلفة بغية وضع اليد على أموالهم عنوة دون وجود مسوغ قانوني لذلك. من ناحية أخرى، توضع الأرصدة في البنوك السورية تحت المراقبة لمدة زمنية معينة من قبل بعض الموظفين في البنك بالتنسيق مع المنظومة الأمنية المعلوماتية لرصد الحسابات المرتفعة التي تغري باختطاف أحد أصحابها لطلب الفدية لقاء إطلاق سراحه، غير أن مصير المُختطف يبقى مجهولاً في أحيان كثيرة رغم دفع الفدية. لأصحاب محلات الصاغة نصيبهم أيضاً من عمليات الخطف والابتزاز وطلب الفدية التي قد تصل عشرات الملايين من الليرات السورية، بينما يختلف الأمر بالنسبة لأصحاب محلات الصرافة الذين تُصادر أموالهم بحجة عدم وجود الترخيص القانوني الذي تمنحه الدولة مقابل مبلغ مالي ضخم يوضع كتأمين لدى الدولة. تقوم إحدى الجهات الأمنية الكثيرة باعتقال صاحب المحل بحجة عدم قانونية الرخصة الأمر الذي يؤدي إلى خسارته مبلغ التأمين المدفوع لصالح الدولة حتى في حال ثبوت براءته، ناهيك عن اعتقاله الذي يطول بسبب بطء الإجراءات القانونية وما يرافق ذلك من خسائر مالية.
تجديد جوازات السفر للسوريين –
ساهم عدد السوريين العاجزين عن تجديد جوازاتهم لأنهم مطلوبون للنظام في ازدهار عمليات بيع الجوازات السورية، وقد تنبّه النظام السوري لتلك المسألة بما يدرّ عليه ربحاً معقولاً. بلغ متوسط الطلبات المُقدمة يومياً، حسب دائرة الهجرة والجوازات، حوالي ألفي طلب وأشارت إلى أنها وصلت إلى مليون طلب في العام 2015، وتقدر عوائد النظام وفق هذه الإحصائيات بما يقارب 400 مليون دولار بالنظر إلى الرسوم الجديدة والبالغة 400 دولار للجواز الواحد.
بنك الإرهاب، أو في مسماه المعروف محكمة الإرهاب –
قد يقترن مُسمّى “المحكمة” في أذهاننا بالصورة المألوفة للمؤسسة القضائية ووظيفتها المعهودة بيدَ أن ما وراء هذه المحكمة الصّورَية ودورها الحيوي هو ما يغيب عنا ولا يتم التطرق إليه غالباً.
كما سبق وأشرت؛ قامت هذه المحكمة بتهميش دور المحاميين في الدفاع عن المعتقلين لتفتح باب الوساطات والسمسرة التي يأخذ فيها المحامي دور الوسيط بين ذوي المعتقل والواسطة الفاعلة. تبقى هذه الأخيرة في الظلّ “لاعتبارات أمنية” فلا يعلمها المعتقل أو أهله ولا حتى المحامي بعض الأحيان لوجود وسطاء آخرين لكل منهم حصته المحفوظة من تسعيرة توقيع القاضي على ورقة إخلاء السبيل، وتشمل سلسلة الوسطاء هذه من يسمّون “مفاتيح القضاة” وهم صلة الوصل بين المحامي والواسطة الفاعلة ويضمنون تجاوب القاضي معهم مقابل المال وغالباً ما يكون المفتاح هو كاتب القاضي.
كثيراً ما عجز السوريون عن تفسير الاعتقالات العشوائية التي لم تخفت وتيرتها منذ بداية الثورة إلى اليوم، لكن إن أخذنا بالحسبان عدد معتقلي الإرهاب والذي يقدر ب 200 ألف معتقل حسب التقرير الأخير الذي نشره مركز توثيق الانتهاكات في سوريا وعدم إصدار المحكمة المذكورة أي حكم بالبراءة منذ تأسيسها في العام 2012 حسب ما ذكر أحد المحامين لمركز التوثيق، وعدد القضايا المُحالة إلى محكمة الإرهاب وفق استقصاء المركز الذي قدرها بما يفوق 32 ألف قضية، نستطيع أن ندرك حجم العائد المالي لتلك الوساطات المجهولة التي تبقى صفتها “الأمنية” الغامضة معلومة للمحامين وقضاة المحكمة.
يقول المحامي “ح.م” : لا استطيع أن أقول اسم الواسطة الذي ساعد بإخلاء سبيل إحدى المعتقلات لدى القاضي الخامس في محكمة الإرهاب مقابل مبلغ مالي “وهو قاضٍ برتبة عسكرية” لكن يكفي أن أخبرك أن القاضي (الخامس) يؤدي له التحية لأنه أعلى منه رتبةً.
يتابع المحامي ذاته : ” لقد استعلن الأمر إلى درجة وضعِ التسعيرة المناسبة لكل معتقل تبعاً لوضعه، فهي تبدأ بمليون ليرة سورية وقد تصل لعشرات الملايين حسب التهمة والأدلة المتوافرة لإدانة المعتقل ، إضافة إلى رفع القيد عن السفر الذي يتطلب تسعيرة أخرى، وتسعيرة غيرها لفكّ مُصادراته. ليس من قاضٍ في محكمة الإرهاب دون مفتاح والمسألة لا صلة لها بالقانون على الإطلاق، امتلأت بطونهم ومازالوا يطلبون المزيد، لقد أصبحت تجارة مربحة”.
تتبع هذه الوساطات تكتيكاً مع ذوي المعتقل يرتكز على قاعدتين اثنتين لضمان الكسب. الأولى؛ أن ينكر المعتقل كل شئ أمام القاضي وإن استندت المحاكمة على حيثية إلقاء القبض عليه/ها بالجرم المشهود، وليست قناعة القاضي -في حال لم يقتنع- بذات شأن في هذه الحالة مطلقاً. الثانية؛ ضرورة التعامل مع واسطة واحدة وتجنب تعدد الوسطاء في القضية ذاتها، فعندما يقوم ذوو المعتقل بالاتصال مع عدة وسطاء يظهر الصراع والمنافسة للتحالف مع المنظومة الأمنية لبلوغ القوة والنفوذ المطلوبين لتحقيق الغرض وذلك حسب الإمكانية المالية للواسطة، الأمر الذي من شأنه أن يعطّل إتمام (الصفقة) في جو المنافسة السلطوي المحموم هذا.
يحذر عدد من المحامين ذوي المعتقلين من عمليات النصب، التي يتعرضون لها تحت وطأة الحاجة الملحة لمعرفة مصير أبنائهم والعمل على إطلاق سراحهم، على يد من يستغلون الوضع الحالي للمحكمة وينصحونهم بتجنب أولئك السماسرة والسير في الطريق القانوني الطبيعي لناحية توكيل محامٍ ومتابعة الأمر عبر القضاء. مما لا شك فيه أن أموراً كهذه واردة حين يُفتح باب الوساطات والسمسرة على مصراعيه، لكن الطريق القانوني لا يحتمل النجاح ولو بالحد الأدنى في محكمة الإرهاب إذ أنه يعطل عمليات السمسرة والنصب وعوائدها المالية الكبيرة.
يؤكد ما أخبرني به المحامي ما يقدمه الملازم محمد، وهو ملازم مسؤول في سجن عدرا للنساء، من اقتراحات بصورة “سرية” على بعض المعتقلات المقتدرات ليخرجهنّ لقاء المال، وقد ساهم فعلاً في إخلاء سبيل إحداهن مقابل 600 ألف ليرة سورية.
إحدى عشر مليون ليرة سورية كانت المبلغ المدفوع مقابل إخلاء سبيل أحد المتهمين بتمويل الثورة السورية والذي ثبتت عليه التهمة مع الأدلة، لتكون مدة اعتقاله شهراً واحداً، في حين كان نصيب ابنة عمه (ف.ب) التي اعتقلت للسبب ذاته ولكن دون أدلة أن تبقى في المعتقل عاماً كاملاً لأن قدرتها المالية لم تتجاوز المليون ليرة سورية.
المفارقة المؤلمة هنا هي أن تكون معارضاً سياسياً للنظام وتساهم في الوقت عينه بدعمه واستمراره عبر المال الذي تدفعه للخلاص من ضراوة قبضته الأمنية، لكن ما يتعرض له المعتقل من تعذيب وسحق ممنهجين لذاته وكيانه يفوق التصور بكل تأكيد.
أورد هنا الحادثة التي نقلها المؤرخ حنا بطاطو : ” لما أشار أحد المندوبين في المؤتمر القطري لحزب البعث عام 1985، إلى السوق السوداء في لبنان وطالب بمنعها قانونياً، وقفت سيدة بعثية وقالت بدهشة : كيف يمكن منع هذه السوق وكل الحاضرين يغتنون منها ! وكان رد فعل الأسد ” قهقهة عالية” (1) . أضف إلى ذلك أن الاقتصاد غير الرسمي ربما يشكل أكثر بكثير من 32% من الناتج المحلي، وفق تقرير كتبه اقتصاديون عام 1987 (2
توجز هذه الشهادة البنية المافيوية السلطوية التي قام عليها النظام السوري منذ عقود، حيث يشكل الاقتصاد غير الرسمي بما يمثله من عمليات تهريب وسرقة وسمسرة وابتزاز جزءاً أساسياً من إيرادته، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المنظومة الأمنية قائمة أساساً على تراتبية سلطوية غير رسمية بما يضمن الولاء والاستمرار من جهة، ويضمن من جهة أخرى توزيع موارد الإثراء غير الشرعية بين أركان النظام وشخصياته النافذة بالصورة التي تدعم المنظومة الحاكمة وتصب في مصلحتها.
تنبع أهمية محكمة الإرهاب وضرورة استمرارها من سياسة الابتزاز والسمسرة المتجذرة في نظام الأسد، فعدا عن دورها الذي تلعبه كفرع من الفروع الأمنية في الدولة، فهي أيضاً بنك حيوي للنظام بصورة محكمة، ونهب ممنهج للوطن باسم القانون.