سحر حويجة
عيد الأم، يحمل الكثير من معاني الوفاء للمرأة الأم، رمز العطاء والتضحية، رمز الخصب وتجديد الحياة، الحب الصادق الذي لا ينضب، ولم تنل منه عوامل التشويه والتخريب، التي طالت الإنسان في زمن الحقد والكره والحرب، بل تجلى بأعمق المعاني، حيث الأم رمز الوطن الحضن الذي يجمع ويقرّب، ويؤمّن أسباب الوجود والاستمرار للعائلة.
الأم أكبر مدرسة لتعليم قيم الديمقراطية، لأنها مهما اختلفت مع أبنائها، ومهما تمرّدوا عليها أو عاندوها، تستوعبهم وتسامحهم، لن تتخلى عن أيّ منهم، هي من لا تفرّق بين أبنائها حبّاً، وعطاء، لكنْ كثيرات هنَّ الأمهات اللواتي اتبعن طريق العادات والتقاليد التي صنعها البشر، وكرّسوها على مدى قرون طويلة حتى غدت حقائق صدّقتها الأمهات والنساء على أن مكانتهن الإنسانية أقلّ من مكانة الرجل، حتى من ابنها الذي ربته وعلّمته من معرفتها، ومن المؤسف أنهن أعدن إنتاج هذا المفهوم في عمليّة تربية الإناث من أبنائهن.
مع ذلك تبقى أمنية كلّ أمّ أن يكون أبناؤها الأفضل، فهي التي زرعت فيهم أجمل ما تراه من قيم.
بعد الثورة حلمت الأمّ السوريّة، بمستقبل أفضل لأبنائها، وباركت الثورة على الظلم والتمييز. تحمّلت الأمّ غياب أحد من أبنائها، في غياهب السجون، وعملت جهدها على حماية الباقين، فخرجت من المنزل باحثة عن عمل، بدلاً عنهم لتؤمّن وسائل المعيشة لهم، تراقب الشوارع خوفاً من عيون تراقبهم، لتعطيهم الأمان.
في السجن، لكلّ معتقل أو معتقلة أمّ تنتظر، بل أغلب المعتقلات هنّ أمهات، ولهنّ أمهات ينتظرن خروجهن من السجن، في كلّ بيت تدمّر أم تشرّدت مع أبنائها، نزحت أو أصبحت لاجئة، أمهات فقدن أبناءهن، وأزواجهن، شهداء أو مخطوفين أو معتقلين. في غياب الأب تقوم الأمّ بدور الأم والأب معا. تشير الإحصاءات إلى أن الأمهات مع أطفالهن يشكلون أكثر من 70 بالمئة من عدد اللاجئين في الدول المجاورة ومن أعداد النازحين في الداخل.
من الصور المؤثرة صورة شائعة للأمّ السورية، على الرغم من الأسباب التي أدّت إلى هروب النساء القسري من العنف الدائر، صمدن في الداخل، بسبب اعتقال أحد أبنائها، تجدها تهرول من فرعٍ لآخر من فروع المخابرات، كاسرة حواجز الخوف في رحلة البحث عن ابنها، علّها تلمحه أو تسمع عنه خبراً.. يحدوها الأمل أن تجده، تتحمّل الإهانة والكلام اللاذع، وقد يصل الأمر حدّ وضعها رهينة السجن بدلاً عنه، قد يبقى المفقود مفقوداً، لكنّ الحلم يبقى.. لا تملّ من الانتظار ومن السؤال.
وفي صورة أخرى، أمهات يقفن، أو جالسات في قاعة أمام محكمة الإرهاب، حيث ينتظر أهالي المعتقلين رؤية أبنائهم، مجرد نظرة من بعيد، لحظة مرورهم في سيارات أثناء سوقهم للتحقيق أمام قضاة محكمة الإرهاب، مقيّدين بسلاسل، مربوطاً أحدهم/ن إلى آخر/ى، رؤوسهم مطأطئة، ممنوعاً عليهم حركة الرأس، نظرهم إلى الأرض دائماً. بلباسهم المخطط للرجال والأزرق للنساء.
أمهات ينتظرن ساعات طوالاً أبناءهن، من أجل نظرة للاطمئنان، أو من أجل لقاء مع المحامي الموكل لسؤاله عن آخر أخبار أوضاع المعتقلين. تستمع إلى قصصهن، تجدها متشابهة، إلا من خصوصيّات وتفاصيل لا قيمة لها، الجميع محكومون برغبتهن وإحساسهن والأمل من أن أبناءهن أبرياء، أغلب الأمهات اللواتي التقيت بهن يؤكدن أن: أبناءهن أبرياء، لا علاقة لهم بما يوجه إليهم من تهم، وإن سألتها عن التّهم الموجهة لابنها غالباً مايكون جوابهن، لقد أجبروه على التوقيع على ورقة تدينه على أنه حمل السلاح، أو دعم المسلحين… وإن سألتهن إن كانت وكّلت محامياً للدفاع عن ابنها، الكثيرات يقلن لا، لأنها لا تملك المصاريف المطلوبة، كما تفضل الأمهات أن تجد طريقاً للقاضي للتفاهم معه، وكثيراً ما يتمّ ابتزازهن واستغلال جهلهن، تسمع كلماتهن، تجدها ضرباً من هذيان، تختلط مع أحلامهن، التي تتكسر على صخرة واقع قاس، يختلط فيه الرعب والموت والخراب، واقع الجنون والهستيريا، حيث كلّ شيء يفقد توازنه وثباته.
من يتعرّف على المرأة السوريّة الأمّ في هذه المرحلة، وعلى الأدوار الاجتماعية التي تقوم بها، حيث تمكنت في الواقع والممارسة من كسر محرمات وقيود كثيرة، جاءت بصورة قانون تمييزيّ، أو حكم شرعي كبلتها خلال قرون، أو أعراف اجتماعية تعتبر المرأة تابعاً وظلا للرجل، لدرجة أنه لا يسمح للمرأة باختيار محلّ سكنها وإقامتها على قدم المساواة مع الرجل، وفق ما جاء في المادة 70 من قانون الأحوال الشخصيّة السوريّ، غير أن العنف والحرب والاعتقال، فرض على النساء التحرر من هذا القيد في رحلة اللجوء والنزوح القسريّ، دون إذن من الزوج وبرفقة القاصرين من أبنائها، علاوة على ذلك في طريق الهجرة إلى أوروبا، تهاجر الزوجة برفقة أطفالها القاصرين بموافقة الزوج على سفر زوجته، لتؤمّن له بعد فترة، قد تطول سنوات لمّ شمل لزوجها، نشير هنا إلى تحفّظ الحكومة السوريّة على المادة الخامسة عشرة من اتفاقية السيداو التي تعطي المرأة حقّاً مساوياً للرجل في اختيار مكان أقامتها.
أضف إلى ذلك أنّ الأمّ السوريّة، أصبحت في غياب الأب، وحتى في حال وجوده في الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها سوريا، المعيل الأساسي للعائلة.
هذه الوقائع وغيرها الكثير، تؤكّد هزالة الأسباب التي قالوا عنها موجبة للتمييز بين المرأة والرجل في الولاية والوصاية والقوامة على الأبناء، هذا التمييز في القانون، يحصر دور المرأة في علاقتها بأبنائها بالإنجاب فقط.. بوصفه حقّاً إلهيّاً وفيزيولوجيّاً خارجاً عن إرادة القوانين، أمّا أيّ حقّ إنساني آخر، يرتبط بالطفل الذي أنجبته فهو من حقوق الرجل. فالمرأة الأمّ لا تملك أن تقدّم له شيئا، إذا لم يرتبط هذا الطفل برجل يعترف به ويقبل إعطاءه اسمه ونسبه، وبعد الطلاق أو موت الزوج، وكي تستطيع الأم الاحتفاظ بطفلها، عليها ألا تفكر بارتباط جديد، إلا فيما خلا استثناءات تكون وصيّة على أطفالها. فجاءت التحفظات على المادة 16 من اتفاقية السيداو، التي تطالب بالفقرات (ج- د و- ز) في المساواة بين الأب والأمّ بكلّ ما يتعلق بالحقوق والمسؤوليات في الولاية والقوامة والوصاية على الطفل، وكذلك الحقّ في اختيار اسم الأسرة.
أيضاً الأمّ السورية ممنوع عليها منح جنسيتها لأطفالها وفق قانون الجنسية السوري، القائم على حقّ الدم المحصور بدم الرجل فقط وعليه تم التحفظ على المادة التاسعة من اتفاقية السيداو التي تنص على أن:
1 ـ تمنح الدول الأطراف المرأة حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في اكتساب جنسيتها أو تغييرها أو الاحتفاظ بها. وتضمن بوجه خاص ألا يترتّب على الزواج من أجنبي، أو على على تغيير الزوج لجنسيته أثناء الزواج، أن تتغير تلقائيّا جنسية الزوجة، أو أن تصبح بلا جنسية، أو تفرض عليها جنسية الزوج.
2 ـ تمنح الدول الأطراف المرأة حقّاً مساوياً لحقّ الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما.
نخلص إلى أن الأم السورية، والأدوار الاجتماعية التي تقوم بها، التي كسرت بموجبها الصورة النمطية للمرأة، لا تستقيم مع واقع الظلم والتمييز بالقانون والتشريع، ومع الأفكار التقليديّة والقوى الحاملة لها، التي تعمل ما بوسعها، للتحكّم بالمرأة والنكوص والعودة بها للوراء.