أحلام عساف
منذ زمن مضى، لم تعد ذاكرتي تستدعيه بشكل دقيق، فقد يكون بعيداً بعد أفراح فتوحاتنا الواهمة عنّا. كانت جدّتي تغازل الشمس أمام غرفتها, في أحد أيّام الربيع وأوّل ظهورها بشكلها الواثق. تُحدِّثنا وكأننا نصغي إليها, وقد خبرناها رزينة العقل رغم اقترابها من التسعين. فكلامها لا يزال مستساغاً ومفهوماً, وغالبا ما كانت العبرة تكسوه من غير تصنّع أو إلحاح. كنّا نتحلّق حولها, ونستمع لقصص مغامراتها الجميلة. عندما كانت تملك موهبة التجارة والمقايضة, وأذكر منها قصصها مع تجار الشام, والذين كانوا يمازحونها عندما تفوقهم دهاءً في فصل البضائع, أو تغريهم بما عندها من أغنام ومنتجاتها, لمقايضتهم بها. كانت تفتخر بعبارة يطلقونها ممازحين “نقسم يا امرأة أن والدك شامي”.
تابعت كلامها متّجهة مرّة لأشعة الشمس وهي تتحدث إليها, ثم تلتفت إلينا وترصد سرعة حركتنا في الدخول والخروج, ونحن لا نأبه لشيء إلا أن نرسل إليها ابتساماتنا, ونسألها: جدتي مع من تتحدثين ما بك؟ لتجيب آخر الأمر “إلكن عم أحكي, عيشوا هدّوا شوي, بكرا بتشوفوا, جايكون يوم رح اتوهوا بالأرض الواسعة, تتعثروا بإجريكون, وتختنق أصواتكون وما تعرفوا شو تعملوا ولوين تروحوا. لحتى تصير حياتكون أضيق من حلقة حرف الميم “سألناها بعجَل: ماذا تعنين يا جدتي, ولمَ تخيفيننا؟ فما كان منها إلا أن حدّقت فينا من تحت نظّاراتها السميكة وقالت بصوت مرتجف قليلاً, لاحظنا فيه اضطراب نومها: “الليلة بنومي شفت كلّ الناس كبار وصغار, جوات دويرة نار كبيرة وعالية, عم يركضوا ويصيحوا ومش عارفين لوين يروحوا”. وأظنها شاهدت أكثر من ذلك ولكنها لم تفصح عنه.
من وقتها جاهدنا أن نتجاهل ما أخبرتنا به وعدم تصديقه, ولم نسألها أكثر ماذا تقصد بكآبتها السوداء تلك؟ وهي التي شارفت على توديع الحياة مكرهة, ولمَ تنعِ مستقبلنا, وما شأن حلقة حرف الميم بكل هذه الجلبة التي اصطنعتها؟.
اليوم.. ذكرى رؤى جدّتي أدهشتني, طرقت خلايا ذاكرتي بشدة, مع زخّات مطر يصحبها زمهرير لا عهد لي به من قبل, ولم تحضَ به سماؤنا منذ فترة طويلة. ففي سوق المدينة وقد اكتظّت الحياة هنا بفوضى جارفة, في زمن لم يكن مناسبا لأيّ شيء إلا لهذه الفوضى المقيتة، صدحت بكل الأركان أصوات مجلجلة, قصفت كهزيم الرعد, فارتجّ الهواء وقذف بحبال المطر بعيداً, تراكض واندفاع في كلّ اتجاه صحوت من غفلتي, فقد ضاق صدري وأصبحت دنياي أضيق من حلقة حرف الميم, التي باحت بها جدتي ذات رؤيا. فهل سطا الحكّام وحاشيتهم على تلك الرؤيا وأمعنوا بها تنفيذا؟ لم نكن يوماً بهذا الدرك وازدحام القاع كما نحن الآن. تكفير, تخوين, وكلّ ما يخطر على البال ولم يخطر عليه.. اليوم يا جدّتي هناك من يحاول أن يكسر حلقة حرف الميم, عبر صيحات متلاحقة من طلاب مدارسنا, احتجّوا على كلّ شيء بهذا الكون. على تخاذل الآباء, على تهافت السماء وعطشها للأرواح.
سأل أحد سائقي التكاسي المركونة على جانبي الطريق:
- ماذا يريد هؤلاء الصبية من هذا الصراخ والتدافع؟
- أجابه أحدهم وقد علت على محيّاه الدهشة الممزوجة بالترقب:
- يريدون إعادة مدرسيهم المفصولين بغير حقّ.
- وهل خدمة العلم غير حق؟ أجاب سائق التكسي.
- وهل التعليم لا يخدم العَلم ؟ ردّ آخر .
ازداد اقتراب الحشد مني, فتشظّت صيحاتهم المكلومة من الوريد إلى الوريد, ثم ارتدّت على أرصفة طحنتها حرب دائرة الرحى, ووصلت إلى معارج السماء. لقد بلغت حشود الطلبة منعطفا, قاصدين قصر المحافظ , كم كان رعبي شديدا وقد بتنا أحجاراً لتلك الرحى, فقد تراءى لي للحظات أن الحشد يسحق. قشعريرة اجتاحتني فجأة كنت قد خمنتها برداً, عندما مرت أمامي لقطات عهد قريب.. وقد اختلطت دماء الشباب بمياه المطر, بحثت عيناي عن ابني بين الجموع, وأظنّني رأيت خصل شعره المجعد وهي طافحة بمياه غزيرة, تراقص الهواء بارداً, وصوته شقّ عنان السماء, وعيونه زائغة تستغيث مستقبلاً مجهولاً. وحدي كنت الخائفة وقد تخشبت الأرض تحت قدميّ, فعندما ظهر شرطي المرور نظر شزراً إلى الجموع التي هاجت وماجت, و لقد نظّم لهم السير بلامبالاة وكأنه يكش ذبابا, آلمني عدم اهتمامه واستغربت ذلك. قررت اللحاق بالركب وابني, شحذت حنجرتي للهتاف بملء حبالي الصوتية: لهفي عليكم يا أغلى شباب, لا للفساد المستشري, لا للتهجير, لا لأيّامنا الصعبة التي نعيش, لا للحرب القذرة بين الأخوة, كفى كفى بالله شهيدا… ولكن تداركت في الثانية الأخيرة سقوطي عن سريري, وقد يبس لساني وجف ريقي، تاركة السماء تمطر وتمطر, وأصوات لا تزال تصدح في أذنيّ…
خاص “شبكة المرأة السورية”