بيروت – غالية الريش
تعيش “نور” ابنة السبعة أشهر في خيمة من القماش المشمع منصوبة على رقعة طينية من الأرض في سهل البقاع اللبناني، والخيمة واحدة من أكثر من عشر خيام في مخيم صغير للاجئين.
و”نور” هي الطفلة الأولى من ثلاثة أطفال لأبويها السوريين التي تولد كلاجئة في لبنان.
فقد فرت أسرتها من بيتها في مدينة حمص في بداية الحرب الأهلية السورية، وتكدس الأبوان عاشقة وطراد، وطفلاهما كل اثنين في مقعد على متن حافلة وسافروا 112 كيلومتراً إلى لبنان المجاورة لبلادهم، حيث خرجت نور إلى الحياة.
أطفال بلا جنسية
والآن تواجه والدة نور وأبوها تحدياً جديداً، فهما يحتاجان لتسجيل ابنتهما بمكتب تابع للإدارة المحلية في لبنان في موعد أقصاه عيد ميلادها الأول، الذي يحل في أوائل سبتمبر/ أيلول 2016، وتمثل شهادة الميلاد أول خطوة مهمة لضمان الحصول على الجنسية السورية.
وبدون هذه الشهادة يمكن أن تنضم نور إلى جيل يتزايد بسرعة من الأطفال دون جنسية إذ يفتقرون إلى اعتراف قانوني بأنهم من مواطني دولة ما.
والدا نور اكتشفا أنها خطوة تبدو بسيطة، وهي تسجيل ولادة طفلتهما حافلة في حقيقة الأمر بالعراقيل بالنسبة للاجئ في لبنان.
حساسية لبنانية
ويزيد عدد اللاجئين في لبنان بالنسبة لعدد السكان، مقارنة بأي بلد آخر في العالم، لكن لبنان ليس طرفاً في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، ولم يسمح للأمم المتحدة بإقامة مخيمات رسمية للسوريين.
ووفقاً لموقع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فقد أظهر مسح تم إجراؤه في عام 2014 وشمل 5 آلاف و779 مولوداً سورياً جديداً أن 72 في المئة منهم لا يحملون شهادة ولادة رسمية، ما يطرح مخاوف بشأن الاعتراف بجنسيتهم من جانب السلطات السورية.
ويشعر بعض الساسة اللبنانيين باستياء بسبب أثر اللاجئين القادمين من سوريا وأغلبهم من السنة، على التوازن الطائفي في البلاد.
فالسلطة موزعة في لبنان توزيعاً دقيقاً، بين المسيحيين والشيعة والسنة وغيرهم من الطوائف، (حيث يقوم النظام السياسي اللبناني على المناصفة في المناصب السياسية بين المسلمين والمسيحيين مع توزيع أكثر تعقيداً للطوائف داخل معتنقي الديانتين).
ويخشى كثير من الساسة أن يخلق تسجيل المواليد السوريين سابقة للسوريين من أجل الاستقرار في البلاد.
ما هي أعدادهم؟
وتشير دراسات أجرتها وكالة الأمم المتحدة للاجئين ومجلس اللاجئين النرويجي، إلى أن عدد الأطفال الذين لم تسجل ولادتهم في لبنان قد يصل إلى 50 ألفاً. وترى وكالات الإغاثة صعوبات مماثلة في تسجيل الأطفال في الأردن والعراق وتركيا التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين.
وهذا يعني أن عدد الأطفال السوريين الذين يحتمل أن يصبحوا بلا جنسية أكبر كثيراً من ذلك على الأرجح.
وتعد هذه الآلاف المؤلفة من الأطفال بلا جنسية وجها من الوجوه التي تعيد بها الحرب في سوريا والعراق تشكيل الشرق الأوسط وشعوبه.
وقالت داريل جريسجرابر مسؤولة الشرق الأوسط بمنظمة اللاجئين الدولية، وهي منظمة إنسانية تساعد النازحين ومن لا يحملون جنسية “إذا نظرت إلى عدد حالات الولادة التي حدثت.. أعتقد أننا نتحدث عن مئات الالاف الذين يحتمل ألا يكونوا قد سجلوا في المنطقة ككل”.
وتقول الأمم المتحدة إن الأطفال الذين لا يحملون جنسية قد لا يحصلون على حقوق أساسية مثل التعليم والرعاية الصحية، وقد يواجهون صعوبات في الحصول على عمل كما أنهم عرضة للاستغلال، بل والسقوط في براثن تجار البشر.
ويتطلب الاعتراف بنور كمواطنة سورية بالكامل الخوض في عملية “كافكاوية” تستلزم زيارة مكاتب حكومية مختلفة والمرور بعدة نقاط للتفتيش في طريق الوصول إلى بيروت والاتصال بالسفارة السورية وهو شيء يخشاه كثير من اللاجئين الهاربين من الحرب الأهلية.
وقالت وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان، التي تتولى مسألة اللاجئين، إن الخطوات المطلوبة “واضحة ومتناسبة”.
ويخشى والدا نور البدء في هذه العملية، وقد طلبا إخفاء اسميهما خشية أن تستهدفهما الفصائل المتحاربة في سوريا أو إلقاء السلطات اللبنانية القبض عليهما.
ولم يحاول الاثنان تسجيل ولادتها رغم إدراكهما لما يعنيه ذلك فيما بعد.
وقالت الأم “نحن خائفان على مستقبلها. خائفان من أننا لن نتمكن من أخذها معنا إذا أردنا العودة إلى سوريا لأنها لا وثائق لها.. فأين هو الدليل على أنها طفلتنا؟”
الهرب
هجرت عاشقة وطراد بيتهما بعد نحو ثلاثة أشهر من بدء الانتفاضة السورية على حكم الرئيس بشار الأسد في عام 2011. ومثلما حدث لمبان كثيرة في حمص أحد مراكز الانتفاضة، سوّى القصف بيتهما بالأرض فيما بعد.
وقالت عاشقة التي تبلغ من العمر 25 عاماً “عرفنا أن المدرسة المجاورة تعرضت للقصف وانهارت على بيتنا، وأقمنا مع أقارب في منطقة قريبة لفترة من الوقت لكن عدد المقيمين بلغ 16 شخصاً تحت سقف واحد ولم يكن هناك عمل وكان القصف يزداد ضراوة”.
وهرب الاثنان مع طفليهما الابنة رهف (7 أعوام الآن) والابن مرهف (5 سنوات الآن) إلى لبنان حيث أقاما في أراض زراعية بالقرب من مدينة بعلبك اللبنانية القريبة من الحدود السورية منذ ذلك الوقت.
وعندما غادرا سوريا أخذا كل أوراق الهوية التي تخصهما وشهادة عقد قرانهما والبطاقة العائلية والأوراق التي تخص الطفلين.
وقالت الأم “نحن حريصون على العودة عندما تنتهي الحرب”.. واستدركت “نحن لا نتوق بالضبط لذلك بعد أن ضاع كل شيء، لكننا نريد العودة وإعادة البناء”.. غير أنهم سيظلون في المنفى لحين تسجيل ولادة نور.
ويواجه الأطفال الذين لا شهادة ميلاد مسجلة لهم، خطر فصلهم عن أسرهم إذا حاولت عبور حدود دولية بهم بما في ذلك عبور الحدود إلى سوريا. وبدون شهادة الميلاد لا يوجد دليل قانوني على الأبوين أو محل الميلاد.
لكن الوالدين يواجهان عملية تسجيل معقدة وغير واضحة في كثير من الأحيان. وهما يخشيان القبض عليهما إذا حاولا التنقل كثيراً في لبنان.
تسجيل الميلاد
وتنصح الأمم المتحدة ومجلس اللاجئين النرويجي، وهو منظمة إغاثة إنسانية اللاجئين بتنفيذ ثلاث خطوات مهمة لتسجيل المواليد في لبنان. وهذه الخطوات ليست هي كل الخطوات البيروقراطية المطلوبة للحصول على الجنسية السورية بالكامل للطفل لكنها الأكثر أهمية وخاصة فيما يتعلق بالوقت.
فعلى الأبوين أولاً الحصول على إخطار بالولادة من المستشفى الذي ولد فيه الطفل أو من القابلة التي تولت توليد الأم.
والخطوة التالية هي أخذ الإخطار وأوراق الهوية الخاصة بهما وشهادة الميلاد إلى أقرب موثق محلي لتسجيل الطفل الوليد. ثم يصدر الموثق شهادة ميلاد ويتقاضى في العادة رسماً يصل إلى 20 دولاراً.
وأخيراً يسجل الوالدان الشهادة لدى أقرب مكتب حكومي محلي للتسجيل في لبنان.
ويجب استكمال هذه الخطوات قبل أن يكمل الطفل عامه الأول وإلا ستصبح هذه العملية مكلفة للغاية ومعقدة وتستلزم اللجوء للقضاء ومحامين واختبارات الحمض النووي (دي.إن.ايه).
وأتمت عاشقة وطراد الخطوتين الأولى والثانية خلال عشرة أيام من ولادة نور في 12 سبتمبر/ أيلول 2015.
والآن أصبحا عاجزين عن التحرك.
فقد ازدادت صعوبة تنقل اللاجئين السوريين بسبب القيود المفروضة عليهم بما في ذلك شرط حمل وثائق معينة والمجازفة بالقبض عليهم في حالة مخالفة ذلك.
400 دولار
وترغم اللوائح السوريين المسجلين كلاجئين على سداد مبلغ 200 دولار سنوياً مقابل حق البقاء في لبنان لكنها تمنعهم من مزاولة أي عمل رسمياً.
وانتهت صلاحية أوراق والدي نور في يناير/ كانون الثاني 2015، في الوقت نفسه الذي أصبحت فيه اللوائح الجديدة سارية.
وعندما داهمت قوى الأمن اللبنانية مخيم الأسرة في ديسمبر/ كانون الأول 2015، احتجزت والد نور والرجال الآخرين لأن أوراقهم لم تكن سليمة.
وقال الأب إن السلطات احتجزته والرجال الآخرين لمدة يوم، ثم أطلقت سراحهم ونبهت عليهم بضرورة تجديد أوراق الإقامة، وإلا فسيتم القبض عليهم مرة أخرى. ومنذ ذلك الحين يخاف هو وزوجته مغادرة المخيم.
وأضاف “لا نجرؤ على الاتصال بأي سلطات ولا حتى لتسجيل ولادة نور دون تجديد إقامتنا أولاً. فنحن مرعوبون خشية أن يحبسونا”.
كما أن 200 دولار مبلغ ضخم بالنسبة للاجئين الذين تقول الأمم المتحدة إن 70 في المئة منهم يعيشون في فقر مدقع.
ولا يضطر اللاجئون لدفع الرسم السنوي فحسب بل يحتاجون في كثير من الأحيان لكفيل لبناني يتقاضى في العادة 200 دولار أخرى.
وقالت الأم “لذلك فالمطلوب 400 دولار لي و400 دولار لزوجي قبل أن نتمكن من تسجيل ابنتنا”.
وفي سوريا كان الأب يعمل سائق سيارة أجرة، أما في لبنان فهو يؤدي أعمالاً عارضة وأعمالاً زراعية موسمية. لكن كل هذا لا يحقق دخلاً كبيراً.
وقال “أعمل يوماً واحداً كل عشرة أيام مقابل من 10000 إلى 20000 ليرة لبنانية (7-13 دولاراً)”.
ديون للبقال المحلي
وتحصل الأسرة على مساعدات من الأمم المتحدة تبلغ نحو 100 دولار شهرياً وتقول إن هذا المبلغ يكفي ثمن الخبز بالكاد. وتدين الأسرة بمئات الدولارات للبقال المحلي الذي سبق أن مدد لها فترة السداد أكثر من مرة.
وعرضت أميرة مشيك زوجة البقال على صحفي قائمة مكتوبة بخط اليد للأسر السورية في المنطقة التي تدين لزوجها إسماعيل بالمال. وتضمنت المذكرة المبالغ التالية:
أم أحمد 1.25 مليون ليرة
أبو سعدون 700 ألف ليرة
سماح 1.00 مليون ليرة
ويحاول طراد وعاشقة الآن الادخار أو الاقتراض لتجديد الإقامة. لكن ديونهما تواصل الصعود.
ووجد الأب عملا في مارس/ آذار 2016، وفي أول يوم انسحق إصبعه في حادث لجرار صناعي، واضطر لاقتراض ألف دولار لتغطية مصاريف المستشفى.
تضليل وبيروقراطية
ورغم انتهاء صلاحية وثائق الإقامة يمكن للأبوين استكمال الخطوة الثالثة بتسجيل نور لدى مكتب الحكومة المحلي. لكن وكالات المساعدة تقول إن عدم وجود معلومات ولوائح موثوق فيها معناه أن هذا لا يحدث إلا نادراً.
ويقول المجلس النرويجي للاجئين، إن كثيراً من اللاجئين يستسلمون لأنهم لا يملكون المعلومات ويخافون من السلطات أو لمجرد عدم امتلاكهم للمال اللازم للتسجيل بكل بساطة.
وتتحدث الأمم المتحدة عن صعوبات مماثلة. وتحاول وكالات الإغاثة توعية الأسر لكنها تتعرض لضغوط كبيرة بسبب أعداد اللاجئين الذين يعيشون في كثير من الأحيان في مناطق من الصعب الوصول إليها.
وقالت عاشقة “الأمر محير. نحن غير متأكدين حتى من أي مكتب من مكاتب الحكومة المحلية الذي علينا أن نذهب إليه. لكن ما الفائدة على أي حال. فما زلنا بحاجة لتجديد إقامتنا”.
70 ألف طفل سوري
ونور واحدة من عشرة أطفال رضع غير مسجلين في المخيم الصغير. وفي الشهور الأولى من عام 2016 كان طفل جديد يولد كل أسبوعين تقريباً. وهذا المخيم واحد من مئات في سهل البقاع اللبناني وحده.
وتقول الأمم المتحدة إن حوالي 70 ألف طفل ولدوا للاجئين السوريين في لبنان منذ عام 2011. ولا يشمل هذا الرقم الأسر غير المسجلة لدى الأمم المتحدة التي لا تملك مفوضية الأمم المتحدة للاجئين تقديراً لها.
وذكر مسح أجرته المفوضية في نهاية عام 2015 وشمل 2500 أسرة أن 68 في المائة منهم لم يستكملوا الخطوة الثالثة ليظل أطفالهم غير مسجلين.
وتوضح أرقام مجلس اللاجئين النرويجي من يناير/ كانون الثاني 2015، أن أكثر من 80 في المائة من حوالي 800 لاجئ أجريت مقابلات معهم غير مسجلين.
وينطوي وجود هذا العدد الكبير من السوريين بلا جنسية على احتمالات مقلقة.
وقال بيل فان إسفيلد الباحث بمنظمة هيومن رايتس ووتش، هذا يدفعك للاختباء.
وغياب وثائق الهوية يجعل كل شيء آخر في حياة الإنسان أكثر صعوبة. وقد يغلق باب حقوق مهمة مثل التعليم والرعاية الصحية، إذا لم يكن لك وجود من الناحية الرسمية. وتضطر للعيش في منطقة رمادية أو حتى تعامل معاملة المجرمين”.
وقال أب آخر في المعسكر يدعى خليفة مطر إنه هرب من الرقة في شمال سوريا مع زوجته قبل ثلاثة أعوام. ولم يسجل ابنه “حكم” البالغ الآن من العمر 18 شهراً خلال مهلة العام الأول. والآن يحتاج خليفة لتوكيل محام وتجديد إقامته وربما إجراء اختبار الحمض النووي لإثبات أبوته.
وقال وهو يكسر قطعة من الخشب للموقد بيد ويحمل ابنه باليد الأخرى “حاولت تسجيل ابني، لكن بدا أن هناك 50 طريقة لذلك ولم يقل لي أحد كيف. بل إنني جربت السفارة السورية في لبنان، فطلبوا مني الذهاب إلى موثق. وقال لي الموثق إن علي العودة إلى سوريا ولذلك استسلمت”.
وأضاف “غداً قد تحدث مشاكل أسوأ من الآن. بل وربما نضطر للفرار من لبنان. ولأن ابني “حكم” غير مسجل لن نستطيع الذهاب إلى أي مكان”.