Search
Close this search box.

غالقٌ … في كومة حيطان

غالقٌ … في كومة حيطان

لونا وطفة

كنتُ أنتظر وقتاً معيناً حددته بعد تقديم وجبة الفطور في الساعة الثانية صباحاً ليكون الوقت ذاته كلّ يوم، أبدأ الحفر بقطعة غالق السحّاب الحديديّة التي استعرتها من سترة صديقة لي تعرّفت عليها هناك، لم تمكث مثلي خرجت بسرعة و أعدت لها الغالق. مالبثتُ أن وجدتُ إبرة دخلت بالخطأ دون أن ينتبهوا لها مع امرأةٍ من الغوطة الشرقية، تمسكتُ بها كما يتمسك نبيّ بكتابه.

كان الحائط هشّاً نوعاً ما، لكن مهمة الحفر كانت معجزة رغم كلّ شيء، فالكاميرا المعلقة على زاوية الباب اليمنى في الأعلى، كانت ترصد كلّ حركاتنا. أوّل تجربة حفر عوقبت عليها حين ظننتُ أنه أمرٌ عاديّ ولن أعاقب بعد كلّ ما رأيته من كتابات على الجدران. لكنها لم تكن كذلك أبداً.

في المرّات اللاحقة أصبحتُ أتوخى الحذر أكثر، أضع بطانيّة عسكريّة تغطي كتفَيّ و رأسي، أعطي ظهري للكاميرا وأواجه نصف الحائط القابع تحت شباكٍ قديم مغلق بمتاريس من حديد، خلف هذا الشباك كانت ساحة الفرع حيث كانوا يشبحون الشباب، لم أكن أستطع رؤيتهم لكنّي استطعتُ سماعهم، إحدى المرّات كانت شهقة موت من مُعتقل عُذّب كثيراً، لم نسمعه بعدها أبداً.

في كلّ يوم، ومنذ الصباح الباكر، حين نستيقظ على أصوات التعذيب، أحصر كلّ تفكيري بمهمتي في هذا اليوم، الساعة التي ستأتي وأبدأ الحفر بها، يتناقض الشعور بين رغبة استعجالها لأبدأ بفعل شيء ما و أخرج نفسي من هذا الألم المقيت، وبين رغبتي ألا تأتي لأبقى في حالة الانتظار تلك لفعل شيء ما. تمر الساعات بكلّ مافيها من أصوات وتعذيب وتحقيق وخلافات داخل المهجع الصغير، ووجوه جديدة كل يوم. تفتح طاقة الباب الصغير لتهيئتنا للفطور القادم، و هذا يعني اقتراب موعد العمل، في الغالب لم أكن أشارك وجبات الطعام بل أكتفي بالبرتقالة المقدمة أحياناً مع خبز، لأن الطعام حقيقة كان أسوأ من أن تستطيع إجبار نفسك على تناوله كلّ يوم.

بكثير من محاولات عدم لفت الأنظار، و تجنّب المخبرات في حال وجودهنّ (ولو أن ذلك كان مستحيلاً بسبب ضيق المساحة)، والخوف من فتح باب المهجع على حين غرّة، أمسك غالق السحّاب وأبدأ بفتح نافذتي به للخارج. في اللحظة التي كنتُ أضع بها غالق السحّاب على الحائط كنتُ أشعر بي من جديد، بذلك الضوء المختبئ بين قشور الحائط، شيء لا أريده أن ينتهي أبداً، كنتُ أعود لنفسي للحظات حين كنتُ لا أجد وقتاً للنوم من كثرة العمل هنا وهناك، تحديداً العام 2013 كان الأكثر زخماً. التفتُ حولي مرّة أخيرة، وضعت يدي وابتدأت … و انتهيت.

بين بداية الخط و نهايته جزء أقلّ من دقيقة، أحياناً كنتُ أحاول أن أطيلها بجعل حفرة الخطّ أكثر عمقاً في الحائط، ولربما كانت أكثر عمقاً بحسب ذلك اليوم ووصفه بخطّ ممدود فقط. كنتُ أتمنى أن تكون تلك الدقيقة دهراً كاملاً، أنتظرها من لحظة انتهائها للحظة بدايتها مرّة أخرى. في نهايتها يكون يوم كاملٌ قد انتهى، يوم من العذاب والظلم والقهر والتعذيب، هذا الشعور كان يغمرني بسعادة وقتية، لا تلبث أن تزول عندما أوقن أنني انتهيت من حفر خطّ اليوم على الحائط، ولم يعد هناك شيء لأفعله الآن!

شيئاً فشيئاً تمرّستُ بإخفاء كتاباتي أكثر، وبدأت بنقش الحريّة على جدران المعتقل، كلمات من سبقوني منحتني الكثير من القصص المعلقة هناك، كتلك التي كتبت “ باب السجن ما بيتسكر على ابني “ تخيلتُ كيف أنها اعتقلت بدلاً عنه، وأنه من ضمن الثوار في مكان ما، لا يعلم أو يعلم تضحية أمه في احتجازها بدلاً عنه، و كيف أنها رفضت حتى تحت التعذيب أن تقول شيئاً عنه، واكتفت بعبارة “ لا أعرف أين هو “ تخيلتها امرأة خمسينية، هادئة ومحتسبة.

منحتني بتلك العبارة قدرة الصمود والصبر أكثر، فكرتُ بعباراتي أكثر.. حين ستُقرأ يجب أن تكون إيجابيّة لتمنح شخصاً آخر ما منحتني إياه كلمات تلك السيدة. بل وذهبت أكثر من ذلك، كنتُ أتخيل أن النظام سيسقط قريباً لأن أحداً ما لن يرضى عن الظلم الحاصل لنا هناك، وستصبح الأفرع الأمنية معالم للتاريخ، وأدلة موثّقة لما حدث فيها، وأنني سآخذ أحبائي هناك، والأبواب باتت مفتوحة، وأريهم ماذا كتبتُ هناك “ الحرية جاية “ و في فرع آخر، وكهدية بعيد ميلادي مُنحتُ من إحدى المعتقلات قلماً كانت قد خبأته معها، كان من أكثر الهدايا قيمة لي، كتبتُ به قصيدة على حائط فرع المخابرات العامة، قصيدةٌ كنتُ قد ألّفتها في حملة قمنا بها للمطالبة بالمعتقلين عام 2013، حين كتبتها سابقاً تخيلتُ شعور المعتقل، وحاولت أن أكتب بالنيابة عنه ليكون للحملة روح أولئك المغيبين، لا حاجة لذلك بعد الآن، كتبتها على الحائط و شعرتُ بسخفي حين ألّفتها، من منّا قادر حقاً على الشعور به هناك؟ على الشعور بقيمة الغالق والإبرة والحائط.. عن قيمة الوقت.. عن أصوات التعذيب والضوء القويّ المسلّط عليه في عتمة اللامكان.. عن كل شيء.. واللاشيء:

كتبتُ هناك من قبري بتاريخ ميلادي الثالث والثلاثين

يا أيها الحرّ الذي في السجن قابع

عبثاً تروّضك المواجع،

لا تسل عنه جدار المعتقل،

هذا البطل

صدحت له كلّ الكنائس والجوامع..

قل لي بربك كيف أنت

خلف أبواب مُغَلّقة،

تكون صرخة حرّة،

تزلزل ألف كون

وتقول للباقين … إنّ الفجر طالع …

قطعوا أنامله التي كتبت

فتجذّر الوطن أصابع …

ذبحوا كلماته التي نطقت

فتولّد الوطن مسامع…

هم أرادوا أن يقتلوه، لكنهم لم يدركوا

أن جراحه أينعت وطناً مُدافِع …

إن كنت تسأل كيف أنتم؟

يا من ترون الشمس في كبد السماء،

و تلثمون الياسمينَ صُبحَ مساء

نحن؟

نحن الشظايا التي ضاقت بصدر الأنبياء

فهات يدك.. وأنقذنا

يا أيها الحرّ الذي في السجن قابع

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »