نبال زيتونة
هل تعود الأم السوريّة مظفّرةً، كعودة عشتار.. هل تنجح في إعادة الحياة لـ “تموز” القتيل على أرض الجريمة الأولى؟!..
أليس في تضحياتها الجليلة ما يبعث دبيب الحياة فينا من جديد؟!..
وهل تزهر تضحياتها العظيمة، بعد رحلتها المجلّلة بالظلمة والمخاطر إلى العالم السفلي؟.. هل تزهر أملاً وبراعم انبعاث في مطلع نيسان؟!..
هو الأوّل من نيسان إذاً، “نيسانو”، الذي يتوافق مع عودة عشتار من رحلتها المضنية إلى عالم الأموات، لتنبعث بعودتها الحياة من جديد على وجه الأرض، هكذا تقول الأسطورة.. وهو عيد رأس السنة السورية، حسب التقويم السوري، أو عيد “آكيتو”، رأس السنة الآشوريّة، والسريانيّة، والكلدانيّة والبابليّة، وكلّها شعوب سوريّة المتجذّرة على الأرض السوريّة..
ويمثّل هذا التاريخ قدوم فصل الربيع، ووفرة الخير والعطاء والنماء، اعتماداً على الأسطورة القديمة، التي تتحدّث عن نزول الآلهة عشتار إلى العالم السفليّ لإنقاذ تموز، وقد نجحت بذلك ليعمّ الخير ويأتي الربيع..
من هي عشتار وما رمزيّتها؟
عشتار.. عشتروت آلهة الحبّ والحرب والخصوبة، وتعني في البابلية عيش الأرض، وهي الأم الأكاديّة، وريثة “إنانا” السومريّة، وعند الإغريق هي “أفروديت”، وعند الرومان “فينوس”، وعند العرب “عثتر”. وقد أطلق البابليون اسمها على أشهر بوابة في بابل، وهي ابنة إلهة القمر، وحبيبة تموز.. كما لُقّبت بـ”ملكة السماء” لعلاقتها بالقمر وتغيُّر طباعها بتغيُّر أطواره، وهي نجمة الصباح والمساء..
رمزيّة عشتار تتلخّص في أنها آلهة الأنوثة والخصوبة لدى كلّ الديانات البدائيّة، ويُرمز لها بالشعلة الأبديّة والوردة والقمر أحياناً، وصُوّرت تحمل الأفعى رمزاً للطبّ والشفاء..
هي الأمّ الأولى مُنجبة الحياة، رمز التضحية، وهي رمز الإله الفادي بنزولها إلى العالم السفلي لتخليص “تموز” من شياطين الظلمة ..
لقد كانت فكرة التضحية والفداء شائعة في ديانات الشرق عموماً، فمن أجل الخصب لا بدّ من قربان وتضحية عظيمة ومقدّسة، ورحلة عشتار تلك إلى العالم المظلم، تعني غياب قوّة الإخصاب، لكن لا خوف عليها، لطالما تحلّت بالحكمة، وجاهدت من أجل العودة إلى الحياة.. وقد ذاقت طعم الموت من أجل الإنسان، واستمرار الخليقة وخصب الطبيعة.. فعودة تموز إلى الحياة تعني بداية السنة الجديدة، حيث تتوافق مع بداية شهر نيسان، عيد الربيع..
تقول عشتار عن نفسها:
أنا الأوّل، وأنا الآخر/ أنا البغيّ، وأنا القديسة/ أنا الزوجة، وأنا العذراء/ أنا الأمّ، وأنا الابنة/ أنا العاقر، وكُثُرٌ هم أبنائي/ أنا في عرس كبير ولم أتخذ بعلاً/ أنا القابلةُ ولم أنجب أحدًا/ وأنا سلوى أتعاب حَملي/ أنا العروس وأنا العريس/ وزوجي مَن أنجبني/ أنا أمّ أبي، وأخت زوجي/ وهو نسلي..
فالتجمّع الإنساني الأول كما يراه فراس السوّاح، لم يؤسَّس بقيادة الرجل المحارب الصيّاد، بل تبلور تلقائيًّا حول الأمِّ التي جمعت الأبناءَ حولها في أوّل وحدة إنسانية متكاتفة هي العائلة الأموميّة، خليّة المجتمع الأموميّ، بصدق عواطفُها وحدبها ورعايتها.. هكذا يرى الباحث الميثولوجيّ، أدوار تطوّر المجتمعات البشريّة عبر التاريخ..
فمبدأ الأمومة يقوم على المشاع والعدالة والمساواة، بينما المبدأ الأبويّ يقوم على التملُّك والتسلُّط والتمييز. الأموميّة توحُّد مع الطبيعة وخضوعٌ لقوانينها، والأبويّة خروجٌ عن مسارها..
فعشتار، الأمّ السوريّة، سيّدة الحكمة، وسيّدة الإلهام الذي ينير نفوس الشعراء، وراعية الفنون والآداب.. توافقت عودتها من رحلة الموت مع بداية “نيسان”، الذي يعود في تسميته إلى أصول بابليّة، ومعناه البدء والتحرّك، والشروع. وسبب التسمية عندهم أنّه كان بداية السنة. ومن معانيه: الربيع والزهر والسنابل. وهو في البهلويّة “أسان”، أي اليوم الجديد. وقد استخدمه العبريون وغيّروه بعد السبي إلى “أفيف” شهر أبيب، التي تعني اخضرار البراعم.
ولشهر نيسان مكانته وأهميّته لدى شعوب سورية قديماً وحديثاً، وله تأثيره على النفس البشريّة، كونه يحمل الجمال للأرض والطبيعة، ويشكّل ولادة حياة جديدة عليها، وقد عدّته الشعوب القديمة شهر الخير والمحبّة والسلام والجلال، من العصر السومريّ فالآشوريّ فالبابليّ، وعدّه بنو إسرائيل بداية الخلاص لشعبهم بخروجهم من أرض مصر..
أسماه العراقيّون عيد الربيع، وعدّه الصابئة واليزيديّون والفرس عيد الخليقة..
هو أقدم الأعياد منذ سبعة آلاف عام، اختلفت تسمياته بين “كيوم، زكموك، وأكيتو” بمعنى رأس السنة لدى الآشوريين واليزيديين الذين يسمونه أيضاً “سرصالي”، كأوّل يوم أربعاء من أوّل أسبوع في شهر نيسان، حيث يكون بداية للسنة اليزيديّة، حسب أحد الباحثين..
وعدّه الرومان مقدّساً نسبة إلى فينوس آلهة الحب، ويُرمز به أيضاً إلى الآلهة التي تتولّى فتح أبواب السماء لتشرق أشعة الشمس بعد غيابها في فصل الشتاء، أي الانفتاح، لرمزية ما تعنيه ملحمة جلجامش فيما يخصّ تموز وعشتار، وأهميتها بشهر الخصب والزهو والعطاء بعودة تموز إله الخصب إلى الحياة كعودة يسوع المسيح بعد الصلب، وفيه يُحتفل بعيد الفصح، حيث كان الأوّل منه يوافق الاعتدال الربيعيّ عندهم، المتعارف عليه في التقويم الحديث في شهر آذار..
وتشير المصادر التاريخية بأن معناه لدى السومريين شهر العبادة، أو المزار المقدّس بتقديس الهيكل، وفي العصر البابلي بمعنى البداية والشروع أي بدء السنة الدينيّة المقدّسة، وقيل أيضاً عن ذكر اسم نيسان في النقوش التدمرية عند العرب القدامى، ولا سيّما أهل البادية، حيث كان رعاة البدو يحتفلون بهذا الشهر من أجل ماشيتهم، ويُحكى عن استخدامهم ماء المطر في نيسان للشفاء..
فعيد أكيتو، لدى الآشوريين، هو رأس السنة الآشورية، الذي يمثّل بداية الخير وقدوم فصل الربيع، اعتماداً على أسطورة رحلة عشتار إلى العالم السفلي لإنقاذ الإله تموز، وعودتها مكلّلة بالنجاح، ليعمّ الخير وينشر الربيع أزهاره على الربوع، ويسمى بالآشورية (خا بنيسان)، أي الأول من نيسان..
وتشبيه ذلك بيوم قيامة المسيح من عيد الفصح بانتصاره على الموت، وانتصار الخير على الشرّ ليكون يوم المحبة والإيمان
لدى العبرانيين وبني إسرائيل..
وقدّس الصابئة شهر نيسان، واحتفلوا بيوم البنجة، وفيه تتجلّى معاني التكفير عن الخطايا بعماد الجماعة، حيث يتمّ في كلّ سنة من اليوم الخامس والسادس من شهر نيسان “الإرتماس” في الماء الجاري في النهر بثلاث دفعات قبل تناول الطعام، ولا يجوز إلا نهاراً وفي أيام الآحاد فقط.
وأخيراً، عذراً جلجامش..
فالأمّ السوريّة، موقدٌ لا تخمد ناره في البرد..
وبابٌ ينفع في صدّ ريحٍ عاصفة..
ومع بداية نيسان، طوبى للسوريين على امتداد تاريخهم وأرضهم.. طوبى للربّة عشتار، للأمّ السوريّة العظيمة.. والخير كلّ الخير للسوريين مع حلول رأس السنة السوريّة ..