هند المجلي
يَا دَارَ ميّة بِالجَواءِ تَكَلَّمِـي … وَعِمِّي صَبَاحاً دَارَ ميّة واسلَمِي
كان لبيوت عديدة في المدن والقرى السورية أن تحتضن ثورة سوريا، وقلوب رجالها ونسائها، حيث تحوّلت البيوت إلى غرف عمليات، تقوم بالتحضير للمظاهرات من أعلام ولافتات وورود ومناشير ورقيّة وصور جميلة، وفتحت البيوت أبوابها لتحمي المتظاهرين والمتظاهرات من بطش رجال الأمن، ومن رصاص بنادقهم التي صوّبوها نحوهم، ولتقيهم من اعتقالات هي الأشدّ تعذيباً وقساوة. وكان لبيوت دمشق المشرّعة أبوابها أن تكون منذ اليوم الأوّل حضناً وملجأً لكلّ من خرج هاتفاً للحرية والديمقراطية, وكان لابدّ من تنظيم العمل الثوري حيث أصبح ضرورياً وملحّاً، فتحوّلت بيوت عديدة بسرعة إلى ورشات عمل وقاعات اجتماعات ومناقشات, وكان بيت الدكتورة ميّة الرحبي أوّل البيوت وأجملها. ميّة الرحبي الثائرة قبل الثورة، والمناضلة قبل أن يعرف الكثيرون النضال.
في طريق العودة من سجن عدرا وبعد أن زرت عدداً من المعتقلين برفقة إحدى المحاميات, وقد أنهكني الجوع, اتّصلت بناهد بدوية أدعوها لنتناول الغداء معاً، وأنا أتخيّل صحن الفول أو الفتة في حيّ شعبيّ من أحياء دمشق القديمة، فما كان من ناهد إلا أن طلبت مني المرور إلى بيتها, فعرّجت إلى بيت ناهد لألتقي بوجدان عندها، وقد انشغلتا بكتابة بيان لتجمّع نساء في الثورة, وخضنا في أحاديث كثيرة بعد أن أتمّت ناهد طباعة البيان باسم تجمع سوريّات لدعم الانتفاضة, تناولنا الغداء عند ناهد، وتمّ الاتفاق وتحديد وقت أوّل اجتماع دعت إليه الدكتورة ميّة في بيتها.
كانت زيارتي الأولى لبيت ميّة, بدأت بصعودي على درجات كثيرة وقاسية، لأصل لبيتها الجميل، الذي أنساني تعب صعود الدرج ذلك, وكانت قد أعدّت مسبقا لتوفير الوقت، الكثير من الأكلات والحلويات والموالح على طاولة توسطت الصالون, وكانت الطاولة بما عليها توحي بجلسة نسائيّة كجلسات نساء دمشقيات سابقاً، بما يسمّى استقبال، وهو نوع من التقاليد الشامية القديمة, ولقاء دوريّ واحتفاليّ عند الصديقات، يقتنصن فيه وقتاً من فرح وسعادة وراحة من الأعباء المنزلية, إلا أن طاولة ميّة أضافت معاني أكثر وأهدافاً أسمى من مجرد لقاء فرح وتسلية نسائيّة, توسّطت الطاولة الصالون وبدأت سيّدات دمشق بالوصول تباعاً إلى بيت ميّة, صديقات سابقات وصديقات جديدات, طبيبات ومهندسات ورسّامات وأديبات ومدرّسات وفنانات وموظفات، ميّة وناهد ووجدان وهند ورشا ولينا وسميرة فك الله أسرها، وسمر وكثيرات، وكان هناك كثير من سلام وأشواق وأسئلة كثيرة وضحكات, ثم تمّت قراءة البيان ومناقشته ووضع الملاحظات عليه، وتمّ التوافق على بنوده والاتفاق على التوقيع عليه دون ذكر الأسماء للضرورة الأمنية, وقّعت على البيان خمسون سيّدة، وتمّ الاتفاق على اجتماع آخر قريب لتحديد المهام والبدء بالعمل وفق الخطة المقررة.
في الاجتماع الثاني كانت طاولة أخرى، ورفيقات جديدات انضممن حديثاً إلى التجمّع، من بينهن نساء من تنسيقية المظاهرات في دمشق, ووزّعنا المهام بيننا فيما يخصّ تنظيم المظاهرات والإعلام والإغاثة لأهالي الشهداء والمعتقلين والمصابين، والرعاية الصحيّة للجرحى، وناقشنا موضوع الأطباء في الثورة، وضرورة التواصل والتعاون معهم. وخرجت مع سمر وذهبنا معاً إلى المقهى الذي ألتقي به أصدقائي وصديقاتي, وكانت أجمل مصادفة حين عرّفت سمر بالطبيب إبراهيم، الذي حدّثني على انفراد وأخبرني عن تأسيس تنسيقية أطباء دمشق، وعن رغبته بالتواصل والتشبيك مع المجموعات الأخرى المهتمة بشؤون الثورة, وفاجأته فرحتي الكبيرة بهذا الخبر وسرعتي في نقله إلى صديقتي سمر, ثم أخبرته عن تجمّع نساء سوريات لدعم الانتفاضة وحاجتنا للتشبيك والتعاون مع تنسيقية الأطباء.
وبالفعل كنّ نساء سوريات عملن كخليّة نحل وبغاية الحرص أمنياً، وبذلن كلّ الجهود رغم الصعوبات لدعم ثورة سوريا وشعبها, تحت أشدّ الظروف خطورة وحرجاً، وفي ظلّ أذرع النظام الأمني المنتشرة في كلّ مكان, وكان العمل في شتّى المهمات بمنتهى الإخلاص والنشاط بعد أن توزّعت مجموعات العمل، ونظّمت آلية العمل والتواصل فيما بينها, فكان تجمّع نساء سوريات لدعم الانتفاضة أوّل شبكة تنموية تفاعلية إغاثية، ربطت بين أعضائها وأصدقائها بخيوط وطنية جامعة, كان العمل الإغاثي محفوفاً بالمخاطر، حيث كان لابدّ من وصول المساعدات إلى المناطق الساخنة، التي قصفها النظام وترك سكانها عرضة للفقر والجوع والتهجير, إلى جانب الاهتمام بأمور النازحين من تأمين السكن والغذاء والدواء والملابس, وتوسّع العمل ليشمل تعليم أطفال النازحين والاهتمام بدعمهم نفسيّاً عن طريق مختصين, و من ثمّ عمل دورات تعليميّة لطلاب وطالبات الشهادتين، وإنشاء مكتبة للمطالعة, وعلى الصعيد الإعلامي تم إنشاء صفحة باسم التجمع على الفيسبوك، نشرت أخبار المعتقلات وصورهن وقصصهن, وطالبت بهن وتابعت شؤونهن، وقدّمت المساعدات الممكنة لهن في سجن عدرا وبعد خروجهن, وعملت نساء التجمّع أيضاً على رصد حالات المصابين في المظاهرات, ومن ثم جرحى القذائف والصواريخ التي كانت تطلق على المدنيين, ومتابعتها وتقديم المساعدات الصحيّة والعلاج والأدوية من خلال العمل والتعاون مع تنسيقيّة الأطباء, إلى جانب العمل العظيم في تأسيس مشاريع صغيرة لتدريب النساء واعتمادهن على أنفسهن اقتصاديّاً، من خلال تدريبهن على أعمال يدوية من خياطة وتطريز وحياكة صوف، والعمل على تصريف منتجاتهن وبيعها في أسواق الدول المجاورة والأوربية عن طريق بعض الصديقات.
كان تجمّع نساء سوريات لدعم الانتفاضة سابقاً لكلّ المنظمات التي نشأت وتأسّست خارج سورية, وهو أوّل منظمة فعليّة حقيقيّة وشاملة، وعلى درجة عالية من التنظيم والكفاءة في عمل المجتمع المدني، وعلى جميع الأصعدة التخصصيّة من تعليم وإغاثة ورعاية صحيّة، وتمكين اقتصاديّ وسياسيّ. وهو نموذج يحتذى به في العمل الوطني التطوّعي، لا شوائب ولا أفكار خارجة عن فكر الثورة وأهدافها في سوريا حرّة ديمقراطية.
إلا أن التشديدات الأمنية ازدادت عنفاً وطالت الكثيرين منا, اعتقالاً وتشريداً واختفاءً واستشهاداً, وتمّت ملاحقة الكثيرين أمنياً، كما استشهد واعتقل العديد منّا. وخفّت لقاءاتنا رغم استمراريّة نشاطاتنا في كلّ المجالات، التي فرضتها علينا أحداث الثورة والقبضة الأمنية، التي زادت عنفاً وشراسة, وبدأنا رحلة التبعثر والهجرة والتشرّد تباعاً, وكان للدكتورة ميّة نصيبها أيضاً، وخرجت من سوريا تاركة وراءها بيتها وبيتنا جميعاً، ينتحب على هاجريه ودفء قلوبهم ومحبتهم ووطنيتهم.
اللوحة للفنان “غسان السباعي”
خاص “شبكة المرأة السورية”
One Response
الدار باصحابه والدكتورة ميه وكل من ذكرت في مقالتك الصديقة العزيزة هند هن صديقات عزيزات مشهود له بالعطاء ونكران الذات والحس الانساني العالي والانحياز للعدالة وللحرية ولدار الدكتورة مية (دار الندوة ) ذكريات سابقة اسست للمواقف اللاحقة نحييكم ونشد على اياديكم