هند مجلي
حين كانت صديقتي ناديا تحدثني عن ثورة مصر وترسل لي صور المظاهرات وصورها مع الأصدقاء من ميدان التحرير، كنت أقول في حسرة: “لا أتخيل أبداً أن تكون لسورية ثورة، ولا أن يقوم السوريون احتجاجاً على ظلم دام عقوداً، لقد رضعنا الخوف والقمع، ولم نعد نتخيل أن الحرية يمكنها أن تطرق أبوابنا”. قالت لي واثقة: “بل سيقومون يا هند وسترين، ستفاجأين يومها أن الثائرين هم من تقولين عنهم اليوم مروضين وأدمنوا الطاعة العمياء والخوف من كل شيء”. وكان ما قالته بل وأكثر، ليشعل أطفال درعا جذوة الحرية … أطفال طلائع البعث والصفقة والتحية الطلائعية. أطفال مازالوا تحت تأثير عملية غسيل أدمغتهم وترويضهم في المدرسة والبيت والشارع. قاموا وخطّوا كلمات الحريّة وهتفوا لها وأطلقوا صيحة الثورة، فكانوا أول أبطالها وأول معتقليها وأول رموزها وأول شهدائها.
لم يدركوا أبداً وهم يلعبون ويخطون على الجدران عبارات مناهضة للنظام، أنهم يخطّون بأناملهم الغضّة تاريخاً جديداً لسورية حرة، ويكسرون بكلماتهم حواجز خوف كانت منيعة لعقود. لحظة خطوا كلمة “حريّة” في 24 شباط 2011، ولحظة بدأ النظام باعتقالهم واحداً تلو الآخر، ولحظة انطلاق أول مظاهرة في درعا البلد تطالب بالإفراج عنهم في 18 آذار 2011 .
وعلى إثر مظاهرة درعا البلد الأولى المطالبة بإطلاق سراح الأطفال المعتقلين، والتي أطلق فيها الرصاص على المحتجين وسقط فيها أول شهيدين, عمّت المظاهرات أرجاء سورية وكانت هذه المظاهرات احتجاجاً ضد الاستبداد والقمع والفساد وكبت الحريات، ولم تكن أبداً ثورة جوع، بل ثورة حرية وكرامة سفحها النظام على مدى عقود وتوّجها باعتقال أطفال درعا … الذين أشعلوا الشرارة الأولى للثورة السورية.
أنكر الكثيرون من مؤيدي النظام قصة اعتقال الأطفال وتعذيبهم ورأوا أنها مؤامرة ضد محور الممانعة والمقاومة العربية كما أشاع النظام، وكانت حجتهم أن منظمات حقوق الإنسان لم تصدق تلك القصة ولم تساهم بنشرها، حيث لم يتم فعلياً توثيق اعتقالهم، ولا صورهم. والذي كان بسبب خوف الأطفال وذويهم من اعتقال آخر أو حتى خوفاً من أن تتم تصفيتهم ,بعد أن ذاقوا صنوف التعذيب في تجربة اعتقالهم والتحقيق معهم، بالإضافة لخوف الناشطين من أن تعرف أسماؤهم بسبب اتصالهم بالأطفال ومقابلتهم. ولم يتم نشرأسماء أولئك الأطفال إلا في وقت متأخر وبعد أن أصبحوا في منأى عن أيادي النظام ولهاث أبالسته … وأما صورهم فلن تجدي نفعاً بعد أن كبروا ولا وسيلة للوصول اليهم حالياً …علماً أن مراسلين من عدة محطات فضائية قابلوا الأطفال والتقوا معهم والتزموا بعدم ذكر أسمائهم أو تصويرهم.
تواصلت مؤخراً مع صديق ناشط كنت أعلم وقتها أنه أتى من دمشق ورأى الأطفال وتحدث معهم وعاد وأكد لي أنه قابلهم وأنهم حدثوه عن رحلة اعتقالهم في فروع درعا (الجنائي والسياسي والعسكري) وسجن غرز والفرع العسكري في السويداء وفرع فلسطين في دمشق, وتراوحت أعمار الأطفال الذين التقى بهم بين 13 وحتى 19 عاماً … وكانت آثار التعذيب مازالت واضحة على أجسادهم الغضة ومازال الخوف رابضاً على قلوبهم وقلوب ذويهم. وطلبوا عدم ذكر أسمائهم أو تصويرهم، ونفى شيئاً واحداً تناقله الناس حينها أنه تم اقتلاع أظافرهم، وأكد أنه تم اقتلاع أسنانهم وأضراسهم. ومن حديث لناشطة اعتقلت في فرع فلسطين حين تم اعتقالها في دمشق في أواخر 2012 تثبت أن القصة حقيقية قالت: حين أتيت بذكر أطفال درعا واعتقالهم وتعذيبهم أمام الضابط المحقق، سألني على الفور: “هل رأيتيهم أو قابلتيهم؟” وعندما أجبته بالنفي رد علي حرفياً: “أهل درعا كذّابين … بإيدي وصّلتهم لدرعا ومافيهم البلا …”
بعد أربع سنوات من الثورة تمكنت من التواصل مع أحد هؤلاء الأطفال وقال وقتها:
(كنت في الرابعة عشرة من عمري حين تم اعتقالي واعتقال الأطفال الآخرين في بداية 2011 بتهمة الكتابة على جدران ثانوية البنين بدرعا البلد وإحراق أحد المحارس الأمنية (كولبة). وقد تعرضنا جميعاً للضرب والتعذيب الشديد، إلا أن التعذيب الأشد قساوة وعنفاً فقد طال المتهمين بالكتابة على الجدران في فرع الأمن العسكري بدرعا انتقالاً إلى السويداء وأخيراً إلى فرع فلسطين في دمشق وكانت التحقيقات والأسئلة كثيرة: “من كتب على الجدران؟ من يجلس معك على مقعد المدرسة؟ من دفع لك النقود لتفعل هذا الشيء، لأي منظمة أنت تابع؟ ماذا تتابع على شاشة التلفزيون؟ لم أكن أعرف شيئاً لأعترف به … أفرج عن بعضنا قبل الثورة بعدة أيام وخرج معظمنا في 20 أذار بعد انطلاق الثورة بيومين … وأذكر أن أحدنا تأخر إطلاق سراحه وأمضى تسع شهور في فرع فلسطين”.
حين سألته عن وضعه الحالي ووضع رفاقه من الأطفال وعن المستقبل والدراسة أجابني: “هل هناك مستقبل؟ هل بقيت لنا حياة؟ لقد تدبرنا أمورنا ولا نريد مساعدة من أحد … لم نتمكن من متابعة تعليمنا أو عمل أي شيء، مازلنا أحياء حتى الآن، لكن لا مستقبل أمامنا، يجب أن نكون على مقاعد الدراسة في الجامعة اليوم ولكن… لم تكن أمامنا خيارات، فانضم أغلبنا للجيش الحر والفصائل الإسلامية واستشهد بعض منا في المعارك ضد النظام”.
وأما نحن … ففي خضم المظاهرات المشتعلة والاحتجاجات العارمة والتي دفع فيها السوريون أثماناً باهظة وقدموا أرواحهم، وفي خضم سعي الكثيرين منا للاستفادة من الثورة وبحجتها والانشغال بتأمين مستقبل أطفالنا و تحقيق أمجاد شخصية وثروات، نسينا جميعاً أطفالنا هؤلاء، أطفال الحرية، نسينا حاجاتهم كأطفال، نسينا حقوقهم وواجباتنا تجاههم،.نسينا أن نمد أيدينا لأطفال تعرضوا لصدمة تذهب بعقل الكبير الناضج فكيف لهم وهم أطفال أن ينجوا من توابع الاعتقال النفسية والجسدية والاجتماعية والتي عرفها وتعرض لها عدد كبير من السوريين.
في غفلتنا هذه , وبعد خمس سنين من بدء الثورة، علمت أن عدداً منهم قد استشهد وهو يقاتل في صفوف الجيش الحر في المعارك ضد النظام , وآخرون استشهدوا بسبب قصف النظام، أما من تبقى منهم فهم إما في الجيش الحر أو ضمن عناصر الفصائل الإسلامية المقاتلة، أو في مخيمات اللجوء في البلدان المجاورة ولم يتمكن إلا واحداً منهم من ركوب البحر والوصول إلى بلد أوربي.
قصتهم تلخص قصة سوريا الجريحة وثورتها اليتيمة، ولا أعتقد أنه سيكون بمقدورنا تعويضهم أو مكافأتهم بعد ما آلت اليه الأوضاع والكوارث التي أحاقت بنا …ربما لن يكون لنا إلا أن نستسمحهم ونطلب عفوهم, ونتذكر صيحاتهم … علّها تطرق ضمائرنا.
الأسماء المؤكدة لأطفال الحرية:
1 – معاوية فيصل صياصنة 2 – يوسف عدنان سويدان 3 – سامر علي صياصنة 4 – أحمد جهاد أبازيد 5 – عيسى حسن أبو القياص 6 – علاء منصور أرشيدات أبازيد 7 – مصطفى أنور أبازيد 8 – نضال أنور ابازيد 9 – أكرم أنور أبازيد 10 – بشير فاروق أبازيد 11 – نايف موفق أبازيد 12 – أحمد ثاني رشيدات أبازيد 13 – أحمد شكري الأكراد 14 – عبد الرحمن نايف الرشيدات 15 – أحمد نايف الرشيدات أبازيد 16 – نبيل عماد الرشيدات أبازيد 17 – محمد أمين ياسين الرشيدات أبازيد.
الأسماء غير المؤكدة:
1- عبد الرحمن نايف ارشيدات أبازيد 2- أحمد نايف ارشيدات أبازيد 3- ابراهيم بدر ارشيدات أبازيد :: 4- نايف موفق أبازيد 5- بشير فاروق أبازيد 6- علاء منصور صابر أبازيد 7- عكرمة ( أكرم ) أنور أبازيد 8- يوسف عدنان السويدان . 9- خلدون السعيد. 10- إياد محمد خليفة. 11- بهاء أحمد خليفة 12- أحمد شكري الأكراد 13- محمد أمين ياسين أبازيد 14- نضال أنور أبازيد 15- مصطفى أنور أبازيد 16- محمد المصري 17- عيسى المصري 18- أحمد جهاد أبازيد 19- نبيل عماد ارشيدات أبازيد 20- أحمد ثاني ارشيدات أبازيد 21- سامر علي الصياصنة 22- عيسى أبو القياص 23- معاوية فيصل الصياصنة.
خاص “شبكة المرأة السورية”