نبال زيتونة
واقع المرأة السوريّة مظلمٌ قاتمٌ، قبل الثورة وبعدها، معارضةً للنظام كانت أم موالية له. وهي التي تصدّرت المشهد منذ بداية الحراك السلميّ، ورسمت خطوطه العريضة القاتمة.
كثيراتٌ تحدثن عن معاناة المرأة المعارضة للنظام، واعتقالها ووحشيّة التعامل معها واستغلالها للضغط على أسرتها وتعذيبها، لكنْ مَن للمرأة الموالية؟ مَن يكشف المستور؟ ومَن يغطي شيئاً من معاناتها؟ وكثيراتٌ أيضاً تحدثن عن معاناة المرأة في المناطق الواقعة تحت سيطرة داعش والكتائب المتشدّدة حين تكون خارجة على أعرافهم، لكن لم أسمع عن معاناة المرأة الموالية لهؤلاء؟!
لذا يحاول موقع “شبكة المرأة السورية” إلقاء الضوء على واقع المرأة السوريّة الموالية للسلطة على اختلاف مناطقها.
واقع المرأة السوريّة الموالية في ظلّ نظام الأسد
لم تكن المرأة السوريّة بمنأى عن أبشع الاحتمالات في ظلّ نظام القمع هذا، ولست أعني هنا المرأة المعارضة، بل سأتحدّث عن المرأة الموالية لنظام الأسد، التي انخرطت في صفوفه تشبيحاً وترويعاً، سواءٌ مكرهةً أم راضية. وقد تعرّفت إليها عن كثب في بعض المظاهرات، كما في زنازين النظام ومعتقلاته، ولم يخطر ببالي أن تكون بهذا الإسفاف والسوقيّة والإجرام! وليس ذلك وليد مصادفة، بل هو نتيجة حتميّة لنظام مارس القمع والترهيب والإجرام على مدى نصف قرنٍ من الزمان.
ندى
ففي الجانب الآخر من هذا العالم، في الجانب المظلم منه، هناك، في زنزانة في أقبية الأمن السياسيّ بالمزّة تركتها، سيّدة دمشقيّة، لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، لديها زوج وابن كما تقول، تركت زوجها وابنها لتلتحق بصفوف الشبيحة، فنبذها أهلها بعد أن عملت على حاجز للفرقة الرابعة في ساحة الأمويين.
هناك على الحاجز، قصّوا لها شعرها وسمّوها باسم مذكّر “عصام”، كي توهم المارّة بأنّها رجل، حسبما قالوا لها. وإلى اليوم لم أجد سبباً مقنعاً لذلك سوى امتهان إنسانيتها والإذلال والقهر.
أكدت لنا ندى أنّها لا تتعاطى المخدّرات، إلا سيجارة واحدة في اليوم يعطيها إياها صديقها على الحاجز، لكنها كانت تعمل “بالدعارة”، فهي مباحة للعناصر المتواجدين هناك، كما لغيرهم من عناصر النظام، كلّ ذلك مقابل الطعام والشراب. وكانوا يستخدمون غرف الحرس وغرف مولّدات الماء والكهرباء في “حديقة تشرين” لهذه الغاية، وإذا كان الزبون ضابطاً مرموقاً كما تصفه، فيأخذها إلى فندق الشام، في وسط العاصمة دمشق، وهناك غرف جاهزة لهم، حيث تُعطى لها الثياب النظيفة وتستخدم الحمّام، وبعد مغادرتها تؤخذ منها تلك الثياب، وتُعاد إليها ثياب الحاجز.
أذكر أنّ رائحتها زادت الطين بلّة حين أدخلوها إلى الزنزانة، وقد أجبرناها على نزع ثيابها وأعطيناها شيئاً من ثيابنا.
تنام ندى أو “عصام” كثيراً وبعمق، وحين تستيقظ تلتهم الكثير من الخبز، وتبدأ حديثها، بأن صديقها الضابط في الفرقة الرابعة سوف يخرجها من هنا. وهو الذي أرسلها إلى “الهامة” في ريف دمشق، لتخترق صفوف المقاتلين من الجيش الحرّ وتخبر عن مواقعهم وتحرّكاتهم. فهو يحبّها كما تقول، وهي بالمقابل، قدّمت له الكثير من الخدمات.
ندى هي واحدةٌ من نساء كثيرات كنّ صديقاتها، ويعملن في المجال ذاته، ذكرت أسماء ثلاثةٍ من النسوة كنّ يرافقنها إلى الهامة، وأخريات كنّ يغبن عن الحاجز أياماً ولا تعرف وجهتهنّ. وتضيف بأن هناك من النسوة اللواتي لم يقصصن لهن شعورهن، وكنّ ضباطاً ولسن عناصر. وهناك أيضاً من يضعن الحجاب أحياناً وينزعنه أحياناً أخرى.
كان في جعبة ندى الكثير لتقوله عن مهماتها في مناطق أخرى كثيرة في ريف دمشق تحت سيطرة المعارضة. لم تسعفني ذاكرتي لحفظها كلّها. وحين سألناها عن سبب مجيئها إلى هنا، قالت بأنّ إحداهن وشت بها، وهي ستأخذ منها حبيبها، الذي لن ينساها، وسيخرجها من هنا.
ندى لم تكن يوماً معارضة للنظام، ولم تفعل إلا ما طلبوه منها، وقد انتهى بها الحال بعيدة عن أسرتها، مرميّة في هذه الزنزانة المعتمة!
دلال
عند إدخالها إلى الزنزانة، كانت تصرخ “والله العظيم رحت أربع مرّات ع الأمن الجوّي وخبرتن أنو هَوْ معارضين (هَوْ: هؤلاء)، وجيش حر، ماردّوا عليّ ولم يأتوا لأخذهم”. كان واضحاً على دلال لهجتها اللبنانيّة المكسّرة، حيث اعتقدنا في البداية أنّها من أصولٍ لبنانيّة.
دلال كما عرفنا بعد حين سيّدة سوريّة، كانت تعيش مع أسرتها في ريف دمشق في إحدى بلدات الغوطة الغربيّة، لأبٍ سنيّ وأمٍّ شيعيّة لبنانيّة، بعد انكشاف نشاطها التشبيحيّ وخوف عائلتها عليها، انتقلت مع عائلتها للعيش في جرمانا، حيث تابعت نشاطها التشبيحي هناك. أذكر أنّني مازحت النسوة يومها وقلت: هذه نماذج من “جرمانا” التي يسمّيها الإعلام الثوريّ “موالية للنظام”.
لم تذكر دلال كم كانت تتقاضى مقابل ذلك، لكن ما عرفناه أنّ والدها عاطل عن العمل، فهو الفرد المُهمَل في العائلة، أمّا الأمّ فهي التي تسيّر أمور العائلة. سألنا دلال ماذا تعمل الأم، وظلّ السؤال معلّقاً إلى اليوم.
بعد مدة ليست بالقصيرة قرّرت عائلة دلال الذهاب إلى لبنان، حيث لم تكن بمنأى عن الخوف الذي رافقها إلى “جرمانا”، وعاشوا في منطقة تابعةٍ لحزب الله حيث أقارب الأمّ. تزوّجت دلال من أحد عناصر حزب الله الذين كانوا يقاتلون في القصير، ولضيق ذات اليدّ عادت إلى سورية لتسجّل زواجها قبل وضع مولودها، كما تقول، فهي حامل في شهرها السادس، والسفارة السوريّة في لبنان، تطلب مبالغ طائلة على استصدار أية ورقةٍ رسميّة منها، وهي لا تملك المال، فدخل زوجها ليس بالكافي.
عن الحدود اللبنانية السوريّة جاؤوا بدلال إلى زنزانة في أقبية الأمن السياسيّ. وكانت تعيد جملتها المعهودة في كلّ مرّة: “رحت ع الجويّة أربع مرّات…” وعلى سبيل التهكّم قلت لها مرّةً بأنّها غبيّة، فسألت لماذا؟ قلت لأنّ من وشيتِ بهم هم من عناصر أمن النظام الذين أرسلهم لاختراق صفوف الجيش الحرّ! وأنت يا دلال خرّبتِ عليهم الأمر، ولم تساعدي. وحقّهم أن يحاسبوكِ على ما فعلتِ. فقالت ببلاهة وخوف: “عن جاااااااد (عن جد)!”
كانت دلال سيّدة حامل في شهرها السادس، ولم تتجاوز الخامسة والعشرين من العمر. عانت الكثير بسبب انعدام الطعام وضيق المكان ورطوبته، حيث لم تكن تستطيع النوم إلا إذا أفسحنا لها مكاناً وأعطيناها ما توفر من “الحرامات”، وانتظرناها حتى تستيقظ، ليأتي دورنا فيما يشبه النوم. بكت دلال، وناشدت ربّها كثيراً، لكن، لا مجيب.
خرجتُ من الزنزانة وتركت دلال وكثيراتٍ غيرها لأقدارهن ورحمة نظام لا يعرف للرحمة طعماً.
رنا
“رنا”… طالبة جامعيّة من درعا، في السنة الرابعة في كليّة الصحافة بدمشق، وعلى أبواب التخرّج. جميلةٌ رنا، وقدّها ممشوق.
زجّوا بها في تلك الزنزانة “ممعوطة الشعر”، “مشرومة الأذن”، جرجروها من جامعة دمشق ضرباً وركلاً، إلى تلك الزنزانة في أقبية الأمن السياسي بالمزّة، لكن رغم الألم، لم تنسَ أنّهم سرقوا قرطيها الذهبيين.
كانت تصرخ بصوت المستغيث المقهور، وتهدّد بقريبها المسؤول الكبير لدى النظام، “يا ويلك مني يا “إ.. إ..” بدي أفضحك.. بدي ربيك..”.. ضحكنا يومها من ألمها لا أدري لماذا يُضحكنا الألم أحياناً، وقلنا لها: “قريبك الآن مشغولٌ في جنيف2، مو فاضيلك”.
قصّة رنا تتلخص باستغلالها من قبل ذلك الضابط في الأمن السياسي الذي تُكرّر اسمه دائماً، مقابل مساعدتها لتصل إلى مرحلة التخرّج. وهي اليوم حامل منه، أرسل عناصره ليضربوها ويعذّبوها كي تجهض حملها! حتى أنّه لم يكلّف نفسه دفع مبلغ من المال لإجراء عمليّة الإجهاض لها، أراد التخلّص من جريمته بأرخص ثمن ممكن، فاتّهمها بالإرهابيّة، التهمة الأرخص ثمناً لنظامٍ بهذه الوضاعة، وهي الشبيحة التي تعمل في صفوفه وتدافع عن بقائه.
لا أعرف ماذا حلّ بتلك الصبيّة بعد ذلك، أخذوها من الزنزانة لتبيت في غرف المحقّقين تلك الليلة، وحاول الحارس إيصال رسالة إلينا بطريقةٍ فجّة تخلو من الذكاء كالعادة، وقال بأنها في المنفردة، وفي اليوم التالي لمحناها في الممرّ قُبالة الزنزانة، ولم نعرف ماذا حلّ بها بعد ذلك.
بعد تلك الحادثة، أكّد لي الضابط المتّهم نفسه، في جلسة التحقيق، أن تلك الفتاة اعترفت بتهريب الأسلحة للإرهابيين، وخرجت لأنّها اعترفت بذنبها وتابت عمّا اقترفت يداها، فهم رحيمون ومسامحون!.. وما عليّ إلا أن أعترف بذنبي وأخرج مثلها.
الضابط الأبله، المشهود له بالخبرة والذكاء في وسطه، صدّق أنّني امرأة بسيطة، ولا تفقه أمور السياسة والحرب. لا أدري إذا كان قد غيّر رأيه فيما بعد.
مازال لديّ الكثير الكثير لأبوح به، لكن قليلة هي الأوقات التي أستطيع أن أعود فيها بذاكرتي إلى تلك الأيام، إلا انّها باقية في قعر الذاكرة، لا تمّحي.
وأخيراً هذا غيضٌ من فيض.. وهذه ملامح من انتهاكات النظام المجرم للمرأة الشبيحة الموالية له، ولك أن تتخيّل كيف يكون تعامله مع المرأة المعارضة.
اللوحة للفنان “فراس باشي”
خاص “شبكة المرأة السورية”