شام المصري
تعدّ مناطق النظام من أكثر المناطق أماناً لنازحي أو مهجري الداخل السوري، بالرغم من سوء الحاضنة الاجتماعية بالنسبة لهم, وصعوبة حصولهم على مكان للسكن أو مركز إيواء يحميهم من عراء الشارع. فقد خصّص النظام بعض المدارس والصالات الرياضية المغلقة كمراكز لإيواء النازحين، لمن لم تسمح لهم حالتهم باستئجار منزل مستقل أو غرفة على الأقل، أو حتى منزل على العظم كما نسميه “أي بدون إكساء مازال على البلوك والإسمنت فقط “. ويرجع ذلك لارتفاع الأسعار بشكل خيالي، واستغلال التجار لهذا الظرف والارتفاع الطردي لسعر الدولار مقابل الليره السورية. فالأغلبية لا يستطيعون دفع هكذا مبالغ، حيث وصل أجار الشقّة على العظم في إحدى مناطق الريف مابين 25_30 ألف ليره سورية في الشهر، حتى الدكاكين الفارغة تمّ استغلالها من قبل التجّار, فيقومون بتبديل غلق المحل بباب من “التعفيش”، بلا ماء ولا كهرباء ولا شبابيك، جميعها تغلق بالشوادر التي توزع عليهم من المنظمات الإغاثية المسجلين لديها, كلّ عائلة حسب عدد أفرادها، إن حالفهم الحظ بطريقة ما وحصلوا على عدد كاف من الشوادر والبطانيات، ومن ثم يؤجر مابين 15 _20 ألف شهرياً. وهذا عائد لإهمال “الدولة” والمنظمات التي تدّعي أنها تعمل بشكل منظم وممنهج, لكنها في الحقيقة وبسبب المحسوبيات والسرقات تغفل وتهمل جزءاً كبيراً من احتياجات المهجرين. وهذا الحال دفعهم لمحاولة التعايش والتأقلم بشتى الوسائل في الحدّ الأدنى من الظروف الإنسانية المتاحة.
تتكوّن معظم العائلات المهجّرة من نساء وأطفال ورجال كبار السن، منهم من تجاوز سنّ الخدمة الإلزامية، وليسوا مطلوبين للاحتياط، أو من كان منهم وحيداً وتم إعفاؤه من الخدمة في جيش النظام, وحتى هؤلاء الرجال هم تحت الرقابة، يخشون العمل في أي مكان لأنهم معرّضون للاعتقال أو الإهانة أو القبول بأجر زهيد مقابل ساعات عمل طويلة ليؤمّنوا اليسير من المال للعائلة، ما اظطرّ أغلب النساء للعمل خارج المنازل وداخله، أوحتى امتهان أعمال أخرى لمحاولة العيش في هذه البيئه الجديدة حيث فرصهم بذلك أكبر وآمن من الرجل.
عند زيارتنا لأحد بيوتات النازحين لا على التعيين لا تجد عائلة كاملة، إما الأب أو الأم أو الأخ… دائما هناك مفقود أو معتقل أو مقتول أو…لا يخلوبيت من نائبة حلّت به. وبالرغم من ذلك ومع من تبقى منهم يحاولون المضيّ والسير في هذه الحياة، أو بالأحرى تسيّرهم الحياة كما شاءت. وبالتالي يتكيفون مع ظروف حياتهم الجديدة بعيداً عن منازلهم وذكرياتهم وجذورهم، محاولين الوقوف من جديد ومقاومة كل الانكسارات التي مروا بها.
في منطقتي حيث أسكن، بدأت منذ ثلاث سنوات تقريباً تتزايد أعداد الوافدين والنازحين إليها من كل المحافظات السورية، كونها خليطاً متماهياً من كل المكونات والأطياف السوريه. لا نعرف أيّهم المعارض وأيّهم الموالي، حالة من عدم الثقة بسبب الخوف المسيطر على الجميع من الآخر. إلا إذا كنا قريبين جداً منهم، واطمأنوا لنا لدرجة البوح بمكنونات آلامهم، حينها فقط نعرف توجّههم. حتى المعارضون الذين ذاقوا ويلات النظام باتوا يخافون بطشه ويظهرون ولاءهم له لأقصى درجة. ومنهم أيضا من كان معارضاً، وبسبب بطش بعض فصائل المعارضه خلال وجودهم في المناطق المحرره قبل النزوح، فضّلوا التهجير على البقاء تحت قوانينهم الجائرة. ولكن الغالب على الجميع موالاتهم للنظام ليستطيعوا العيش في مناطقه وكنفه بأمان .
أم محمد الحمصيّة، هكذا أسميها، أعرفها منذ ثلاث سنوات تقريبا، هجرت حمص هي وزوجها وعائلتها وبناتها الست وصبيان صغيران إلى إحدى مناطق النظام، يسكن في الطابق السفلي تحتهم مباشرة جار يهدّدهم ويتوعّدهم بإحضار الأمن، كلّما مشى أحد أبنائها مسرعاً وأحدث ضجيجاً، فقط لأنهم من حمص. سنتان من المعاناة إلى أن ضجرت منه وكسرت خوفها وأخبرت الجيران عنه وأحد عناصر الشرطة حتى ارتدع قليلا وكف عن مضايقتهم. حاول زوجها جاهداً أن يجد عملا يعتاش وعائلته منه ولم يوفّق، فعاد إلى حمص باحثا عن عمل هناك، ولرعاية والدته المسنّة. تعلّمت أم محمد التطريز على القماش في منزلها، وعلّمت بناتها ذلك، كي يعتشن من أجره ويعينهن على إتمام دراستهن. ورغم سوء حالتها الصحيّة، فهي تشكومن ضمور في إحدى كليتيها والتهاب في الثانية، إلا أنّها مازالت مستمرة في العمل والبقاء مادام الوضع آمناً لها ولعائلتها..
أم شهد سيدة مهجّرة أيضا تقول لي “زوجي شهيد”. سألتها كيف وأين؟ قالت: على إحدى الجبهات كان يقاتل مع اللجان الشعبيّة، كنت حينها حاملاً بابنتي. وهي تعيش اليوم مع ابنتها ذات السنة والنصف في غرفة صغيرة، وتعمل في ورشة لصنع الفضة، وتأخذ طفلتها معها، ومؤخّراً التحقت بورشة عمل للسيدات لتعلّم المهارات اليدويّة، أطلقتها إحدى المنظمات العاملة في سوريا، وما أكثرها!..
أتحدث غالباً عن السيدات، لأن معظم الشباب إمّا بقوا في المناطق المحاصرة، وإما سافروا خارج البلاد هرباً من موت محتّم في الخدمة الإلزامية أو الاحتياط، وأحياناً نادرة موجودون هنا ويتحرّكون بحذر تفادياً لزجّهم في جيش النظام أو الاعتقال.
بتنا لا نرى في الطرقات سوى كبار السن من الرجال أو الصبية ممن هم دون سنّ الخدمة العسكرية، حتى أصبح الوضع مثار سخرية من قبل البعض.
كتبت إحدى السيدات على صفحتها من باب السخرية التي لا تخلو من مرارة “ياصبايا صار فيكن تطلعوا ع الشارع والسوق بالبيجاما أو بالتفريعة وبلا حجاب، كمان فيكن تطلعو كيف مابدكن ….نسوان ع بعضنا ..”
دخلت أحد المقاهي فوجدت صبيتين محجبتين تعملان لدى صاحب المحل الموالي للنظام، كانتا تقدمان المشاريب للزبائن, لفت انتباهي ما دون الحجاب، حيث كانتا ترتديان ثياباً تلتصق بالجسد، وتلفت انتباه أيّ زائر لشدّة الإغراء، عدا الأصباغ التي علت وجهيهما، وللحظات كدت أفقد رصانتي وأقول لهن ..ولماذا الحجاب اذا!؟.. أنا فتاة ولفت انتباهي ذلك المظهر.. لماذا؟!.. سردت هذه القصة ولست أعمّم فيها أبداً.. ولكن لأقول بأنّ البعض لجأ لأقصر وأسهل طريق للتكيّف مع الحياة الجديدة. أراهن أيضا في مراكز الإيواء طفلات يقمن علاقات مع عناصر الأمن المسؤولة عن حماية المكان ليحصلن على حاجيّاتهن… وفي طوابير توزيع الإغاثة في مراكزالهلال الأحمر نرى من البعض العجب العجاب كما يقال.
أعتذر لكلّ القرّاء عن بعض هذه التفاصيل التي ذكرتها، ولكني آسف أيضاً لما يحدث، وأعلم جيداً أن هذه الظواهر منتشرة في كلّ الأطياف والمجتمعات.. وأغلب المهجّرين من الطائفة السنيّة وهذا ما يؤلمني, إنهم خرجوا من دائرة مغلقة كانوا يعيشون فيها إلى دائرة أوسع، ولكنهم لم يحاولوا فهم هذا الإنتاح وهذا التحرر بشكله الصحيح.. وأكرّر أنّني لا أعمّم ولكن البعض منهم، وبسبب تردّي الأوضاع في مراكزالإيواء المختلطة، سيئة الإدارة، نجد الأب يزوّج ابنته القاصرة ذات الاثنتي عشر عاماً ليتخلص من مسؤليتها وعبئها, بالرغم من وجود الكثير من المنظمات التي تعمل على التوعية والتنمية البشرية والتعليم في مراكزها المنتشرة داخل البلد، ولكن المجهود المبذول دائما ليس بحجم الكارثة، وأنا هنا أتكلم عن منطقة صغيرة لاتتجاوز مساحتها خمسة كيلو مترات مربعه، ولكن الكثافة السكانية فيها العالية، والمتنوّعة جعلت منها “نموذجاً مصغراً” عن سورية.
وبعد خمس سنوات على التهجير والنزوح داخليّا وخارجيّا تكيّف كل مع مكانه الجديد ووضعه الطارئ.. الجميع يأمل بالتغيير، وقد وصلوا إلى مرحلة الملل من النظام والمعارضة والمجتمع الدولي.. الكل يريد الحل والأمان والاستقرار. تكيفوا مع واقعهم لأنهم لا يريدون أن يكونو شبه أحياء، تمسكوا بخيط رفيع من الحياة وبدؤوا البناء عليه.. لعل.. وعسى يكون الآتي أفضل لأنجالهم على الأقل.
اللوحة للفنان “أسعد فرزات”
خاص “شبكة المرأة السورية”