بشار عبود
ما الذي أنجزته اتفاقية سيداو(CEDAW)، للمرأة العربية منذ إطلاقها أواخر عام 1979 وحتى الآن، وهل تستطيع أية اتفاقية في العالم، مهما صيغت بإتقان، أن تقضي على كل أشكال التمييز ضد المرأة داخل بلداننا، التي لم يجد حكامها وقتاً كافياً لتأسيس دولة قانون ومؤسسات تكفل الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته؟
وإذا ما أردنا الذهاب أبعد من ذلك، هل يمكن أن يطرأ أي تغيير إيجابي على وضع المرأة العربية في ظل غياب مراكز أبحاث أكاديمية ومؤسسات مجتمعية حقوقية، تستطيع النساء الاستناد إليها إذا ما تعرّضن لانتهاك في الحقوق أو الكرامة أو غيرها من قضايا التّمييز ضدّهن؟
تتضمن اتفاقية سيداو (CEDAW) 30 مادة قانونية تتعلق بالمساواة بين المرأة والرجل في المستويات المدنية، السياسية، الثقافية والاجتماعية. وتهدف إلى تطوير دور المرأة وتمكينها في البلدان والمجتمعات التي تعيش فيها، وهي قضايا قطعت المجتمعات المتقدمة أشواطاً بعيدة في تحقيقها قبل توقيع الاتفاقية، ولا تزال تناضل في سبيل إقرار المزيد من حقوق المرأة.
ورغم إقرار الأمم المتحدة للاتفاقية أواخر سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التمييز ضد المرأة في الدول العربية مازال سيد المشهد، بل ومازال يتمدد رغم ثورات “الربيع العربي”، الأمر الذي يشكّل انتهاكاً فاضحاً لحقوق وكرامة المرأة، وإقصاء لدورها في الحياة العامة، ما سيعيق مستقبلاً أي فرصة محتملة لرخاء أو نمو أو تطور للدول العربية ككل، إذا ما اعتبرنا أن الدول التي تهتم بخلق تنمية مستدامة في مجتمعاتها، لا تسمح بإقصاء المرأة (نصف المجتمع) عن أي دور في الحياة العامة أو مراكز صناعة القرار.
وفي الوقت الذي رفضت فيه كل من السودان والصومال التوقيع على الاتفاقية، فإن معظم الدول العربية التي وقعت عليها، أبدت تحفظات جوهرية على عدد من بنودها، مما أفرغ الاتفاقية من هدفها الأساسي في نيل المرأة حقوقها الإنسانية المشروعة أسوة بالرجل.
والخطير في الأمر، أن الدول التي وقعت على الاتفاقية، استندت في تحفظاتها تلك على عوائق تتعلق في مجملها بالخصوصية الثقافية والاجتماعية السائدة، والتي كرستها النصوص الدينية، من خلال ميلها لسلطة الذكر التي لا تسمح للمرأة بأخذ حقها المشروع في الكرامة والحرية والمساواة.
ومن هنا، فإنه لا يمكن الفصل بأية حال، بين ظاهرة التمييز ضد المرأة وتعنيفها، وبين ثقافة المجتمع الذي تنشأ فيه تلك الظاهرة، وبالتالي لا يمكن للعنف أو التمييز على أساس الجنس أن ينخفض بمجرد توقيع اتفاقية دولية ضمن قاعة فاخرة في مدينة ساحرة كمدينة “كوبنهاجن”.
فاتفاقية سيداو وكل اتفاقية شبيهة بها، ستظل عاجزة عن تأدية أي دور في مجتمعات تتعايش مع ظاهرة التمييز والعنف ضد المرأة بشكل طبيعي، وتتبناها ليس بحكم القانون، وإنما بحكم العرف السائد والتقليد المتوارث، دون أدنى شعور بأهمية الحاجة للتغيير، بحيث يتشكل العنف ضد المرأة كنتيجة مباشرة لثقافة المجتمع السائدة، القائمة على ثنائية القوة والضعف، والذكر “السيّد” الذي تقابله امرأة “مطيعة”.
إن هذه الصورة النمطية التي توارثتها مجتمعاتنا العربية على امتداداتها الواسعة، والقائمة في أساسها العميق على تقسيم الأدوار بين الرجل والمرأة، لم نجرؤ، بكل أسف، حتى الآن على تجاوزها أو الخروج عليها، أو حتى على التفكير في مناقشتها ضمن إطار شعبي واسع يكون للفرد العربي دور فيه، إذ لا يزال هذا الأمر على أهميته البالغة، محصوراً إلى الآن بصالونات الثقافة النخبوية، التي ليس لها أي أثر على مستوى القاعدة الشعبية.
من هذا البعد السلطوي للثقافة الذكورية العربية، يمكننا معرفة المرجعية التي استندت إليها الدول العربية في تحفظاتها على عدد من بنود اتفاقية سيداو، فقد شملت تلك التحفظات (المادة رقم 2)، التي تهدف إلى تجسيد مبدأ المساواة في الدساتير والتشريعات وتكفل التحقيق العملي لهذه المساواة، وشملت أيضاً (المادة رقم 9) التي تعطي المرأة العربية الحق في منح جنسيتها لأبنائها إذا ما تزوجت من رجل أجنبي. كما تم التحفظ على (المادة رقم 15) التي تقر حق المساواة بين الذكر والأنثى أمام القانون. شملت التحفظات كذلك (المادة رقم 16) والتي تحدد سن زواج المرأة، وتنظم عقود وعلاقات الزواج وقوانين الأسرة بشكل عام.
وبنظرة سريعة، فإننا نلاحظ أن هذه التحفّظات تشمل مواضيع مهمة تتعلق بصلب الحياة الحقيقية للمرأة العربية، والأسرة العربية، والمجتمع العربي ككل، إذ ليس هناك من امرأة غير معنية بمسائل الوصاية والولاية والقوامة والإرث وحضانة الأطفال ومنح الجنسية للأبناء، وزواج القاصرات وتعدد الزوجات والحق بالطلاق والنفقة خلال الزواج أو بعد الطلاق، وزواج المسلمة من غير المسلم.
كلها قضايا جوهرية ارتأت الحكومات العربية أن التحفظ عليها أسهل من الخوض فيها وتحمّل تبعاتها التي قد تكلفها متاعب ديمقراطية لاحقة، وتغييرات جذرية في منظومة القوانين، وخلق مجتمع مدني يفرض رأيه على السلطات الحاكمة، فضلاً عن تشكيل أحزاب سياسية تنافس على السلطة، وكل هذه القضايا لن تكون في صالح الديكتاتوريات المتسلّطة في منطقتنا.
وبهذه الحالة لا يمكن النظر إلى مصادقة الدول العربية على الاتفاقية، إلا من حيث كونها مجرد قشرة تجميلية، ورسالة للدول المتحضرة بأنها قبلت أن تكون جزءاً من الشراكة الإنسانية معها، في الوقت الذي يعرفون فيه تماماً كيف يمنعون أي تأثير إيجابي لهذه الاتفاقية على واقع المرأة العربية الحقيقية، لا سيما أن الدول العربية التي وقعت على الاتفاقية استطاعت التهرّب من إجراءات المحاسبة، بعد التحفّظ على (المادة 29) منها، والتي تلزم الدولة الموقعة بقبول نظام التحكيم في حال نشوب خلاف بين الدول، الأمر الذي عمّق الفجوة بين التوقيع الشكلي على الاتفاقية وبين غايات سيداو (CEDAW) المناصِرة للمرأة وحقوقها.
وقد يقول قائل إن هذه الاتفاقيات ما هي إلا آليات تضغط بها الدول الكبرى على الدول العربية بهدف إبقائها تحت حد المساءلة القانونية، فضلاً عما تنطوي عليه من وسائل ضغط لتمرير أهداف سياسية عالمية أو مشاريع اقتصادية كبرى، أو صفقات أسلحة. وبغض النظر عن هذه الفكرة التي يحتاج البحث فيها لدراسات معمّقة، إلا أنه لا يمكن تجاوز حقيقة أن اتفاقية سيداو التي نحن بصددها الآن، قد أظهرت عمق الشرخ الحاصل داخل مجتمعاتنا العربية نفسها، وكشفت ابتعادنا عن الحياة الديمقراطية، واستمرار تمثلنا لشريعة القبيلة في تفاصيل حياتنا، وتحديداً تلك المتعلقة بعلاقتنا مع المرأة وعلاقتنا مع حكامنا وطريقتنا في صناعة الرؤساء والملوك ورجال الدين، والنظر إلى الآخر المختلف عنا.
كما كشفت عن أننا أبناء الماضي الذين لا يعطون مساحات للتفكير في المستقبل، لا سيما مع قدراتنا الخارقة على استحضار صراعاتنا التاريخية، وتحكيم الموتى بمستقبلنا ومستقبل أبنائنا، ما يحيلنا للقول بأسف، إن هذه الاتفاقية كشفت عن المقدار الهائل لجهلنا المعرفي بالعالم الديمقراطي المتمدن والحر.
ولذلك، فإنه من الطبيعي بالنسبة لمثل هذه المجتمعات أن لا تُعطى المرأة حق منح جنسيتها لأبنائها إذا ما أحبت وتزوجت رجلاً من دولة أخرى، بينما يحق للرجل ذلك بكل سهولة، ذلك الحق الذي اعترضت عليه بشكل واضح كل من: السعودية، العراق، مصر، لبنان وسوريا.
وفيما تندرج أسباب الرفض ضمن نفس الإطار القائم على الخصوصية المجتمعية العربية، القائمة على التمييز بين الرجل والمرأة، فإن رفض الحكومة السورية لهذا البند عام 2009، جاء بحجة وجود مشكلة تتعلق بمنح الجنسية السورية للأكراد. أما الدولة اللبنانية، فجاء رفضها بحجة أن ذلك سيساهم في إخلال التوازن الطائفي الديموغرافي للبلاد! وهذا موثق لدى اللجنة الوزارية التي كلفتها الحكومة عام 2013 بدراسة هذا الأمر. فيما لم تقبل الحكومة الأردنية إطلاقاً، على سبيل المثال، حتى بمناقشة هذا الحق للمرأة الأردنية، في الوقت الذي تسجل فيه الأردن معدلات عالمية مرتفعة في ارتكاب جرائم الشرف.
هذه الذرائع، إن كانت تدل على شيء فإنما تدل على وجود مشكلة كبيرة في الثقافة العربية، وأزمة هائلة في المرجعيات التي يتم الاستناد إليها لسن القوانين والدساتير العربية، كما تدل على أن فكرة التغيير بحد ذاتها هي معضلة بالنسبة لنا.
ولهذا، فإذا ما أردنا فعلاً القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، فإنه لا مفر لنا من البدء، وبحزم، بتغيير الحامل الثقافي والاجتماعي لشعوبنا ودولنا، بحيث نكون قادرين على خوض الصراع بطريقة أخرى أكثر جدوى، طريقة تراكم وعياً شعبياً كبيراً يعين على إنتاج التغيير نحو الأفضل، وليس مجرد إحداث تغييرات في هرم السلطة فقط، دون الانتباه لما يحدث في القاع، كما حصل ومازال يحصل في الدول التي طالها “الربيع العربي”.
عن مجلة “سيدة سوريا”