شام المصري
في المهجع تقلّص حلمنا إلى مجرد فراش ورغيف وشيء ما يقينا صقيع الشتاء الذي لا يحتمل. باختصار كان الهمّ الوحيد هو التأقلم والبقاء، وعوننا في ذلك بعض من ذكرياتنا خارج أسوار المكان.
في أيامنا الأولى باب المهجع مغلق بشكل دائم، ممنوع علينا الزيارات, الاتصالات, الخروج إلى باحة السجن. كل شيء ممنوع، حتى بعض المواد الغذائية التي تباع في الندوة. ولكي نستمر بالحياة نتأقلم تارة ونتمرد أخرى ونحتال أحياناً.
صورٌ من المهجع:
سيّدة وأمٌّ لخمسة أطفال من درعا, تهمتها التواصل مع الجيش الحر، وجميعهم أقرباؤها وجيرانها وأبناء قريتها, ضربت وشبحت وأهينت في أكثر من فرع أمنيّ إلى أن وصلت هنا.
سيدة أخرى في العشرين من عمرها اعتقلت على حاجز لأن زوجها معتقل بتهمة قائد كتيبة.
سيّدةٌ ثالثة من درعا تهمتها استدراج شباب من الجيش الحرّ والجيش النظامي بقصد الخطف والتصفية.
صبيتان جامعيتان تهمتهما الإعجاب بأحد قادة الحرّ المشهورين وصوره على جواليهما.
صبيّة حمصيّة جميلة، تهمتها المساعدة والتبرع بالدم للجرحى.
سيدة وأم لأربعة شباب اعتقلوا معها، كانت مقيمة في مدرسة للنازحين في حلب تحت حماية اللجان الشعبيه آنذاك, سرقوا حقيبتها وفيها كل ما تبقى لها من ممتلكات, قدمت شكوى لقائدهم فاعتقلها مع أبنائها الأربعه بتهمة الإرهاب.
سيدة تهمتها تهريب السلاح وتمويل الحر, وأخرى تهريب منشقين, وغيرها الطبخ للجيش الحر، وأخرى دعم معنوي، وأخرى استدراج واختطاف.
تهم واعتقالات بالمجان والكلّ تحت بند الإرهاب.
سيدة مسنّة في العقد الخامس من العمر، جريمتها صنع كمامات للحر ولا دليل ملموساً على تهمتها.
شيء مضحك مبكٍ، والجميع ينتظر عرضه على القضاء.
أخيراً المحكمة
مرّ شهر كامل حين استُدعيت للقضاء أول مرّة أمام محكمة الإرهاب, وكان قد وصل عددنا إلى أربعين امرأة في مهجع واحد. بعد مدّة سمح لنا بالخروج إلى باحة السجن. تحت البناء هناك قبو أيضاً وسجناء، لكنهم أطفال وأحداث دون الثامنة عشرة، ومعظمهم ضحايا هذه الحرب. الجميع هنا ولأجل البقاء يتخلى عن لعبة الأقنعه التي كان يمارسها خارج الأسوار، يعود الى بدائيته، إلا ماندر.
في السابعة من صباح أحد الأيام استيقظت على صوت الملازم يناديني باسمي: “خمس دقائق جهزي حالك عندك محكمة خمس دقائق والا تركناك”, لا أدري كيف جهّزت نفسي ووقفت أمام الباب أنتظر! فُتح الباب وجمعونا في الممرّ، السياسيّات مع التهم الجنائيّة، ثم أُعطونا التعليمات وأُجبرنا على ارتداء ثوب الجنائيّات. كأنّني في غيبوبة، لم أستفق إلا بعد أن لفح وجهي الهواء البارد من نوافذ سيّارة السجن المهشّمة بسبب إطلاق الرصاص عليها من بعض الفصائل.
ها أنا أعدّ الدقائق … لقد أضحى الحلم قريباً، ما هي إلا ساعات وينتهي هذا الكابوس الرهيب.
وصلنا، هناك عند البوابة يتجمع الأهالي بحيث لا يُسمح لهم بالدخول. فُتحت البوابات ودخلت الحافلة، ترجلنا بالسلاسل والقيود حتى وصلنا إلى قبو البناء حيث السجن الذي سنودع فيه ريثما يأتي دورنا. تم تفتيشنا بدقة. لعلّ المحكمة غير الموقّرة تخاف الإرهابيّات أمثالنا.
مثلت أمام المحكمة أخيراً. اقتادوني عبر ممرّ طويل يغصّ بالشرطة وعناصر الأمن والمعتقلين. تعرّف المحامي إليّ، وحاول بالإيماء إعطائي بعض التعليمات، فهمت ما أراد. كانت القاعة عبارة عن مكتب فخم مليءٍ بكروزات الدخان والهدايا التي مازالت تُقدّم للقاضي ويتناولها بصدر رحب، ثم يضعها في أدراج مكتبه أو تحته. سألني عن اسمي وتلا علي بعض التهم التي أنكرتها، ثم قال انصرفي. أعادوني إلى سجن المحكمة. مرّ وقت قصير ثم اقتادونا الى الحافلة التي أقلتنا. صمت يطبق على الجميع فسألت الملازم المرافق لنا ما الأخبار، فقال تم توقيفك على ذمة المحاكمة, هنا توقف كلّ شيء. صعقت، تجمد الدمع في عيوني، تحجرت، صراخي لا صوت له. الرأس مرفوع ومازلت متماسكة لأبعد الحدود. شيء ما بدأ يتخلخل من الداخل. سيل من الحمم تنجرف من أعلى هامتي لأخمص قدمي، لا يجد منفذاً فيعاود سيره, ولكنهم كانوا يقرؤون صراخي والشتائم في تعابير وجهي, لا أريد شفقة من أحد، أنا من اختارت الطريق، ولن أنهار أمام عهرهم سأنتظر. عندما ينكسر الماء أنكسر أنا. هذا ما أحسست به حينها.
سجن خمس نجوم
وضعوني في جناح التوقيف, هنا بدأت الترتيبات. سرير جديد وخزانة للثياب وأشيائي الخاصة، تلفاز، براد… المكان هنا خمس نجوم.
حدسي يسرّ لي أنني سأخرج من هنا.
نستيقظ في الصباح نجتمع على القهوة والمتة والتنظيف والغسيل وتبادل الأحاديث إلى أن يحين موعد الغداء الموحد، فاصولياء ورز، أو مجدرة وأحياناً بطاطا مع المرق وبرغل. كنا نكتشف أحياناً بقايا فتافيت من عظام الدجاج في الطعام لندرك أنه كان بالفعل يوجد شيء منه، ولكن حتى يصل إلينا يتبخر أو يطير بقدرتهم. التلفاز كان أهم وسيلة تواصل مع الخارج مع أنهم لا يسمحون لنا إلا بمشاهدة إعلامهم الرسمي وبعض القنوات الموالية وقنوات الأغاني الهابطة. لكن لا مشكلة، أسمع وأستنتج وأحلل لأعرف القليل مما يدور في أروقة السياسة داخلياً وخارجياً. أما المقدس لدي فهو السابعة مساء عندما أعود لروتين ما قبل الاعتقال، فعلى إحدى قنواتهم فقرة للصوت الملائكي فيروز حيث يأخذني إلى خارج هذه الأسوار أحلق بعيداً عنهم.
أمضيت شهرين ونيف بالتوقيف، مثلت خلالهم أدواراً كثيرة، دور أمٍّ حنون ساعة، وأخت تارة، ورفيقة تارة أخرى، وطفلة وقاضية لفضّ نزاع أو شجار بين المعتقلات.
أسلي نفسي أحياناً بأشغال الصوف والهدايا التي سأرسلها لأحبتي وأهلي في موعد الزيارة يومي الأحد والثلاثاء صباحاً، الجميع يحضّر نفسه وكأننا مدعوّات لاحتفال.
يُنادى على من لديهن زيارات، نصف ساعة كانت بمثابة دنيا بكلّ مافيها، وفي الثواني الأخيرة يكاد القلب يتوقف. أتمسك بالشبك الحديدي أمامي كطفلة تُنتزع عنوة من حضن أمها للمجهول, أحبس دموعي وأنفاسي وأصطنع ابتسامة عريضة أمام زائري والشرطة وكاميراتهم إلى أن تحين لحظة الوداع, تنطفيء كل مصابيح الحياة أمامي وأعود إلى مهجعي أجترّ الذكريات لدقائق، أعيدها وأفنّدها، ومقلتاي تتوهجان كنجم يأفل. وفي النهاية أستجمع بعضي وأعود للانخراط بالروتين, نتبادل الأخبار ومن لم تحظَ بلقاء نشغلها بأحاديثنا ونسليها. وبقدر ما كانت تعنينا هذه الدقائق من الزيارة بقدر ما كانت أحياناً تسبب لنا الألم ولزائرينا أيضاً.
بالون حراري
أذكر في إحدى الزيارات حضرت زوجة أخي وابنتها طفلة في السابعة من عمرها، أصرت أن تأتي وتعبر هذا الطريق الملييء بالموت والخطر لتراني وتتأكد أنني بخير. حتى هذه الطفلة كانت تعي معنى الاعتقال, بكت كثيراً عندما رأتني من وراء الشبك المزدوج، لم تستطع أن تلمسني أو تعانقني، ولأول مرة أذهب للملازم المناوب لأطلب منه أن يسمح لها بالدخول لثوان. شاهدت وسمعت بكاءها، كانت تراقبنا وكأنها تنتظر مني هذا الطلب. لم يشفع لهذه الطفلة دموعها ولا بكاؤها، رفض وبوقاحة. لم أكرر طلبي وعدت أدراجي للطفلة محاولة توضيح المشهد وتلطيفه حتى هدأت قليلاً.
حادثة أخرى، أثناء الزيارة بدأت تعلو أصوات الاشتباكات والقذائف بين جيش النظام والجيش الحر بمحيط السجن، حيث يبعد الحرّ عن سجن النساء مسافة ثلاثمئة متر تقريباً، وبدأ تحليق طائرات النظام فوق المنطقة يقصف بصواريخه ويخترق جدار الصوت على علو منخفض. كان الطرف الآخر يردّ أيضا بقذائف ومضادات طيران، وكل هذه المعارك حولنا وفوق رؤوسنا، إلى أن أسقطت إحدى الطائرات بالوناً حراريّاً في الباحة الخلفية للسجن، خلف مهجعنا تماماً، فلحقت المضادات هذه البالونات وسقطت في الباحة. دوّى صوت الانفجار عالياً، كلّ من كان في المهجع أصبح خارجه، الخوف والهلع سيّد الموقف، ارتفع الصراخ افتحوا الأبواب، لكن ما من مجيب. تطاير زجاج النوافذ في كل مكان، أدخل بعض الزائرين المصابين بالشظايا الى داخل البناء، لا أعلم هل هو الخوف على حياتهم، أم لجعلهم دروعاً بشريّة كعادة هذا النظام.
بعد مدة نشأت علاقات وديّة بين المعتقلات والعناصر، نتبادل الأحاديث وبعض الطعام الذي نطهو من خلف الأبواب، وخلسة من كاميراتهم المزروعة في كل مكان, لم يرونا إرهابيات كما صورنا النظام, ولكن لاحول لهم ولا قوة. حتى نحن بتنا نتعاطف مع بعضهم ونتمنى لهم السلامة من أي مكروه, تغيرت معاملتهم قليلاً وأصبحوا متعاونين للحدّ الذي لا يصل درجة إيذائهم.
دعم نفسي
في السجن ممرّض واحد هو الطبيب والشافي والمداوي، هو كل شيء. يأتي صباحاً نتجاذب أطراف الحديث من خلف الباب الحديدي، ويعطينا الدواء، إلا إذا استدعت بعض الحالات الذهاب إلى المستشفى، فالأمر يتطلب معاملة طويلة وموافقات أمنية وروتيناً بطيئاً. أذكر أنّ سيّدة أصيبت بأزمة قلبية ليلاً ولم يتمّ إسعافها خوفاً من القنص أو الاختطاف، توفيت السيّدة، أو قتلوها, فصيدليّة السجن فارغة لا دواء ولا حتى ضماد، ولا أي شكل من أشكال الإسعافات الأولية لأيٍّ منّا، حتى لعناصرهم. “الديكلوفيناك” تباع داخل السجن بألفي ليرة سورية، نضطر لشرائها في حالات الإسعاف.
بعد تزايد الأعداد في جناح الإيداع مجموعة من السيدات المعتقلات طالبن بإنشاء صف لمحو الأمية وللدعم النفسي والتوعية. وافقت إدارة السجن هذه المرة وفتح أحد المهاجع المغلقة لهذا الغرض لفترة شهر, حيث سمح لنا باستعارة الكتب من مكتبة السجن، أمّا مذكراتنا التي نكتبها ويومياتنا فكانت تصادر عند خروجنا.
سمعنا بوجود هاتف حيث يسمح للسجينات الجنائيات بالتحدث متى أردن، طالبنا بأن يُسمح لنا باستخدامه، وتمّت الموافقة وسمح لنا كل أسبوع ساعة واحدة لكامل الجناح بمرافقة شرطيين, وإذا عوقبنا لأيّ سبب نحرم منه نحن الموقوفات، أما الإيداع فلم يسمح لهن أبداً استخدام الهاتف.
في المهجع تشاركنا كل شيء أحلامنا، أوجاعنا، طعامنا، آمالنا، صور أطفالنا, مضى الوقت والأمل لا يفارقني، إلى أن أخلي سبيلي بصفقة تبادل بين النظام والجيش الحرّ. حزمت أغراضي، لكن الذي لم يفاجئني أنّني كنت مطلوبة لفرع أمنيّ آخر، أخذوني معصوبة العينين، وزجوا بي في معتقلٍ آخر، حيث وجدت كلّ المعتقلات اللواتي كنّ معي بسجن عدرا.
الموقع كفر سوسة المربع الأمني – أمن الدولة فرع 285. مكان جديد وأحداث جديدة. ماذا ينتظرني هنا؟
اللوحة للفنان السوري “نذير اسماعيل”
خاص “شبكة المرأة السورية”