أمينة بريمكو
تستيقظ الخالة فريدة في الخامسة فجراً، وبعد صلاة الفجر تتجه لتحلب معزاتها الثلاثة، ثم تنطلق معهن متجهة إلى ضفاف نهر عفرين، تجلس فريدة على الضفة المعشوشبة، تقول: “منذ بدء حصار داعش ونحن نحاول أن نتكيف مع الظروف الجديدة”. الخالة فريدة تبلغ السادسة والستين من عمرها، في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة تحاول أن ترعى معزاتها وبيع حليبها وشراء ما يلزمها. تقول وهي تتأمل البريق الخافت من تموجات النهر:” من كان يصدق بأننا سنستعيد تلك الأيام التي كنا نغسل ثيابنا على ضفاف النهر؟ أتذكر بأن أمي كانت تحممنا بجانب النهر وتغطينا بغطاء مهترئ قديم حتى تغسل ثيابنا وتجففها على شجيرات البلوط لنرتديها ونحن نرتجف من البرد، كنا نحوم حول حلقة النار كعصافير نحيلة ضعيفة”، تستأنف بحسرة: “من كان يتصور بأنه سيأتي هذا اليوم بعد كل التطور الذي حدث في الدنيا؟”.
روت الخالة فريدة بأنها وجاراتها يتفقن كل اسبوع للمجيء إلى النهر مع حمل أمتعتهن من برميل غسيل وطشت غسيل ومنظقات الغسيل لغسل ثيابهن على ضفة النهر. تقول بعفوية وابتسامة نقية تعلو وجهها:” بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل وانقطاع المياه نضطر لغسل ثيابنا على ضفة النهر، حيث تغني لنا أم نظمية أغاني “علي تجو”، بينما تروي لنا أم كمال النكات لنتسلى” تتابع بخجل” نحن لا نشعر بالتعب بسبب الاجواء المرحة التي تساعدنا على نسيان التعب”.
ترى هل كان الحصار القاسي منذ سنيتن وحتى اللحظة الراهنة بمثابة امتحان أخر لنساء عفرين في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي أصابت مدينة عفرين كغيرها من المدن السورية؟ بعد أن تضاعف عدد سكان مدينة عفرين أصبح الوضع الاقتصادي كارثياً، لقد تضاعف عدد سكان عفرين من 500 ألف نسمة إلى مليون نسمة. حيث ارتفعت أيجارات المنازل إلى أرقام خيالية، ناهيك عن أسعار الأغذية والوقود والملابس. يقول أبو شيار وهو بياع ملابس:” كل بضائعنا تركية وأنت تعرفين وضع الحدود بين سوريا وتركيا، لذلك نحن نضطر أن ندفع للطرفين التركي والسوري معاً لنستطيع تمرير بضاعتنا”. وعندما سألناه عن الأسعار المألوفة في دكانته” رد بخجل: “لا توجد قطعة أقل من عشرة ألاف ليرة سورية”.
بينما أكدت السيدة خديجة، وهي ربة منزل وأم لأربعة أطفال بأنها تطهو الطعام على الحطب منذ عامين. ثم سألناها عن الماء البارد ودرجات الحرارة تفوق الأربعين، وخاصة في شهر رمضان فأجابت وعيناها تضيئان بالأمل: “لقد اشترينا آنية فخارية كبيرة، كما تعلمين الفخارة تبرد الماء وتنقيها”، ثم أردفت: “أكيد لا يشبه ماء البراد، لكن الفخارة تجعلها عذبة مع بعض أوراق النعنع الخضراء والحبق التي تجعل طعمها مثل مياه النبع”.
بينما يؤكد السيدة زينب، وهي معلمة مدرسة سابقة، أصبحت عاطلة عن العمل هي وأغلب القطاع التدريسي في مدينة عفرين بعد أن حرمهم النظام من رواتبهم: “قبل شهر حاول بعض المهندسين تشغيل الموتورات الرئيسية للكهرباء في عفرين، رغم أنهم ليسوا أخصائيين في مجال الكهرباء، لكن الصدفة ساعدتهم لتشغيل الموتورات”. تقول ودمعة حزينة تترقرق في عينيها: “تصوري امتلأت سماء عفرين بالمفرقعات واحتفلوا لساعات طويلة بسبب عودة الكهرباء، حيث لم يحتج أحد لتشغيل المولدات الكهربائية. وبسبب فقدان الوقود وارتفاع سعرها نحن ندفع 600 ليرة سورية مقابل ثمانية ساعات إنارة ويبدأ تشغيل المولدات من الساعة الرابعة مساءً حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً”.
فيما بعد التقينا بالسيدة شهناز، وهي خريجة كلية الاقتصاد وأم لطفلتين, حيث عبرت عن حزنها الشديد ببسبب الشلل التام في السلك التعليمي قالت :”لا توجد مدارس ثانوية ولا اعدادية ولا معاهد. وحتى الابتدائية لا توجد مناهج تدريسية متقدمة، هي عبارة عن مناهج ساذجة متخصصة في اللغة الكردية، ولا يحق للكردي تعليم أولاده اللغة العربية، فاللغة العربية فقط للأطفال العرب، لماذا لا يحق لبناتي تعلم اللغتين معاً”.
أنهينا لقاءاتنا الميدانية مع القانونية نازلية حيث أكدت الوضع الكارثي في القطاع الصحي بسبب هجرة خيرة أطباء عفرين إلى الخارج، قائلة: “لقد فقد عدد كبير من المواطنين حياتهم بسبب فقدان المصول المضادة لسموم الأفاعي والعقارب، من بينهم أطفال”. كما اكدت السيدة نازلية بأن الكثيرون فقدوا حياتهم في عفرين إما بسبب ارتفاع سعر الدواء أو عدم وجودها في الصيدليات، أو بسبب قلة الأطباء المختصين.
ترى ما الذي ينتظر هذه المدينة التي اصبحت ككرة من عجين في يد الادارة الذاتية؟
عفرين التي أصبحت حقل تجارب للبقاء على قيد الحياة في ظل حصار اقتصادي قاتم، وما تنتظرها من قوانين من قبل الادارة الذاتية ومخاوف الأهل من مستقبل معتم لأولادهم.