سرى أحمد علوش*
أسئلة
لم تجب هذه الأرض أسئلة الموت في داخلي
لم تضع نفسها بين سكانها كي ترد على الذكريات
التي يتركون إذا أفلتتهم يد الريح
أو أغلق العمر أضواء سهراته العابرات
فلم يبصروا أحدا
لم تقل أين تلقي بأجسادهم كي تخف
ولا كيف تحبس أصواتهم تحت معطفها الخارجي
فتسكت صرخات أحلامهم
وترد صداهم إلى باطن الأمس كي لا تراهم,
وكي تتحرر من عقدة الذنب
تغمد أسماءهم فوق سرتها
واحداً واحدا
لم أمت قبل هذي الحياة لأعرف
إن كان يجدر بي أن أعد انتظاراً يليق
بفتنة هذا الفراق الذي سوف يأتي
وإن كان لابدّ أن ألتقيه على قدمي
كما يفعل الأصدقاء إذا رتبوا موعدا
كيف لا أكسر العادة الأبدية في الموت
حين يودعني الأهل
منتصرين بما علمتهم سماواتنا الأزلية:
أن نحتمي من ظلال مخاوفنا بالصلاة,
وأن نكتفي بالكلام القليل عن الراحلين
وكيف سأحتاج أكثر من مفردات الرثاء
التي يعرف الدمع
كي أسكب العمر من جسدي تحت هذي الرخامة
دون التفات إلى الخلف
كيف سأسند رأسي على صدر أمي
ولا أستطيع مناداتها لو صدى
هل سيؤلمني الأمر حين أحس بوقع خطاهم بعيدا
إذا انفض حشد الوداع
وهل سوف أجهش حين يلامس كعب أمومتها
طرف الشوق في ظلمتي الأبدية
كيف أقول لها لا تخافي علي
فلن أكبر الآن أكثر
لن أتذمر من أي شيء
ولن يكسر القلب حب أضاع دمي من يديه
وأنفق عمري على قدميه انتظارا لعودته من سماء الغياب الثقيل
وعلقني كالغريبة خارج أسواره العاليات
لتنثرني الريح في أرضه بددا
هل أجهز أمتعتي للذهاب كأني أسافر
أم سيكون المكان بعيدا
غريبا
فلن أتذكر أني نسيت الكتاب الذي كنت أقرأ بالأمس
أو أغنيات الصباح التي كان يصحو على صوت فيروز فيها
نهار الحديقة في داخلي
أو رسائل أرسلها عاشقان
بكيت علي إذ افترقا متعبين!
هل سأحتاج بعضاً من البن كي أحتسي قهوتي
مثلما اعتدت كل مساء
سآخذ أيضاً قليلا من التبغ
كي لا أصاب بداء المنافي الثقيل
ولا أسأل المتبقي من الشك
ماذا وأين
كم سأبقى من الوقت في ذلك المستطيل
الذي سوف يكشف سوءة ماضي لي
هل سأفنى هناك
وهل سوف يأخذ أفكاري العدم المتأهب
أم سوف ينفخه الله في رويدا رويدا
فيسرق مني الكتابة والرقص
والركض كي يقطع الحب فينا
رذاذ الكلام الذي يفصل الجسدين
ربما لن يغير ذاك الفراغ الصغير الوجوه
التي يحفظ الأصدقاء لما كان اسمي على هذه الأرض
لكنني لن أكون هناك لأعرف
من سوف يحملني في غيابي على ظهره
أو سيفتح شباكه ليفتش عن نجمتي
في ليالي الشتاء الحزين
لن أرى أحدا
بعد أن يغلقوا باب موتي علي
فهل سوف يطفئ عيني نومهما تحت جنح الظلام
ولا أبصر الورد ثانية فوق قبري
ولا ذكرياتي بألوانها المنتقاة
وهل سأخاف من النوم وحدي
إذا هدأت فوقي الأرض
أم سأبدد حزن التخلي لهذا المكان
عن الجسد المتمدد تحت لحاف التراب
فيرفعني الله في غفلة من عيون النيام إليه
ويحضن ما كسر الخوف
داخل روحي الوحيدة
من فكرة الماء والياسمين
كم كذبت عليهم
وأخبرتهم أنني لا أخاف العبور
وكم قلت يسعدني الموت يا موت
فاحضر إذا شئت حين تشاء
أو اقتل بسيفك ما ترك الحب من مرض داخلي
سيقتلني مرتين
كم كذبت
وخنت الحياة التي صدقت أنني أشتهيك
ولا أشتهيها
لم تجب هذه الأرض أسئلة الموت في داخلي
فانتظر
لو قليلا, قليلا من العمر يا موت
كي ألمس الريح من غير هذي الجهات
لعلي- ولو حلما-
أمسك الأرض من جنة
لست فيها
احتمالات
لم يكن جاهزاً للحديث عن البحر
حين سرقت خطاه من الطرقات
وخبأتها في ضلوعي
لم يكن دافئاً كالحنين
ولا بارداً
كالكلام الذي قاله في الوداع
ولا واضحاً كالظلام
الذي كان يرسم في صوته المر
نافذة من دموعي
لم يكن متعباً
أو حزيناً
ولكنني كنت شاردةً تحت هدأته مثل ظل وحيد
لوحدته المستكينة
لا أستطيع الكتابة عن وجعي كالنساء
ولا دفن أسراره في التراب
ككل الرجال المملة أحزانهم
حين يهبط نحو قصائدهم وحي أنثى
كنت أكبر من أن ألامس جرحي بسيجارة
أو أرممه بالحصى
كنت أصغر من يده المطمئنة لي
قبل هذا الغياب المباغت
فاخترت أن أكسر الشمس
كالأغنيات على ركبتيه
وأنسى رجولته المستبدة كالحب
في جيب معطفه
حين يشتد بي مرض الذكريات الشتائي
قد لا أحدثه عن سماء الشهور التي عذبتني به
ربما سأقول له
حين يقرع كأس ابتسامته جسدي
إن هذا المساء جميل
وقد لا أقول له أي شيء
عن اللغة التي تركتها أصابعه
تحت جلدي
وقد لا أرد له قلبه
فيعود إلى البيت
مبتكراً فرح الطفل في غيبة الأم
أو حزنه حين تصبح ذكرى
فما الحب إلا غطاء لقسوتها حين يبكي
وما الهجر إلا عقوبتها المستمرة
كي تستطيع امتلاك رجولته حين يكبر
قد يتذكر وقع أنوثتها
حين تنفض عن كتفيه الهواجس والخوف
أو حين تسند أوجاعه كالعصا
ربما يرجع اليوم
أو حين يسرد للأصدقاء حكايتنا
مثلما لا يراها
وقد يكتفي باعتذار جميل من الصيف
عن سهر الغيم يحرس عينيه
كي لا يعود
كنت أعرفه مثلما تعرف الأرض غصتها
والبلاد أزقتها العبثية
كنت أجيد تجاهله
حين يسكب كفيه في حضرة الأمسيات مرايا
ليعرف من أي ضوء
أرى عقدتي نحوه
كان أجمل من أي شك
وأوهى من النار
حين تدق الثلوج
بياض مفاتنها
خارج الأمنيات التي لم تخن سره
وتضيع الحدود
لم يكن طيباً
أو حزيناً
ولم يحتمل دهشة الشعر
حين تسرب كالنوم من أضلعي في الصباح
ولم يستطع أن يدور فكرته
عن نساء القبيلة
حتى يرى ظهرها
كنت مثل شبابيك أحلامه العاليات
أراه ولا أستطيع انتظار بطولته أن تطول
فهل خنته كي يصيب سمائي بأحقاده
فأموت
وهل كان يحلم بي كي يحب سواي
تمنيت ألا أسامح ضحكته المستديرة
كالأرض في الروح
أن أنتمي لحنين سواه
يفسر لي
كيف يأخذنا الحب من جسد نحو آخر
كيف يعذب أمتعة العمر
دون عناء كثير
وكيف نحب بلا أي معنى
سوى الانتظار
كان لابد أن أقسم العمر نصفين
كي لا أجرب نسيانه
كلما أفلتت وجهه الريح من برجها
أو عطل الشوق دورة أيامه حول نفسي
وعلقني كالفراشة
في جسد من نهار
* شاعرة سورية
اللوحة للفنان العراقي عامر العبيدي