وجدان ناصيف
في كل مرة تعود ابنتاي من المدرسة ترّويان لي أمثلة كثيرة تظهر الفوارق الهائلة بين المدارس هنا والمدارس في سورية. في حفلة نهاية العام ألقى المدير كلمة كوميدية أضحك فيها التلاميذ وعائلاتهم . قال كلمة “مرحبا ” بكل اللغات، ففي مدرسته تلاميذ من كل الجنسيات. ثم ألقى خُطبة قصيرة بلغة عربية من الواضح أنه لا يعرفها، شكر فيها أهالي التلاميذ الذين في معظمهم من المغرب والجزائر والذين ربما فهموا منها فقط عبارة” السّلام عليكم” . هم الجيل الثالث من المهاجرين المغاربة ولم يعد هناك من لغتهم الأصل إلا بعض كلمات يعرفها المسلمون على اختلاف لغاتهم.
كتبت لي صديقتي المعلمة من السويداء عند نهاية العام الدراسي: .. “هذا العام لم يكن يشغلنا تعليم الأولاد بقدر ما كان يشغلنا أن نجعلهم يستعيدون بعض الفرح .. عملنا حفلاً كبيراً شارك فيه نحو مائة تلميذ. جميعهم رقصوا. لم يكن مهماً إتقان الحركات أو ضبط الإيقاع، ما يهمّ هو الفرح. مع ذلك بقيت تلميذة بعيدة، غطاء رأسها الأبيض الذي يبدو أكبر من وجهها الطفولي منعها من الرقص. وقفت بعيداً تراقب وكنت أنظر إليها. ابتعدت عن أنظار والدتها وبدأت تحرك جسدها مع الموسيقى بدون خجل..”
“لكن ليس كل ما في فرنسا جيد!” .. تقول ابنتي التي ترفض أن تسمع شيئاً عن أخبار سورية. يرعبني ابتعادها لكني أفهمه. ذاكرتها مليئة بالرعب. طفولتها تريد أن تنسى أصوات القصف والانفجارات وخاصة صوت قذائف الهاون التي كانت تتساقط قريباً من بيتنا والتي كانت تجعلها لا تتوقف عن التقيؤ لأيام.
اليوم دخلتْ البيت مرتجفة تبكي من شدة الخوف. الشباب أمام البناء الذي نسكن فيه يواظبون منذ يومين على وضع المفرقعات تحت غطاء حفرة الصرف الصحي وسط الرصيف وفي العلبة المعدنيّة المخصّصة لرمي البطاريات وحتى في عمود إشارة المرور. عندما تنفجر المفرقعات وسط العلبة المغلقة تحدث صوتاً يشبه صوت انفجار الهاون. الشباب الجزائريون يتناولون “الحشيشة” طوال الوقت في الحي الذي نسكن فيه . “هذه الأحياء المخصصة للاجئين، ليس لدينا خيارات حالياً” ، أرد على طلب ابنتي الرحيل عن هذا الحي.
كتبت لي قبل أيام :” اليوم جاء الطفل الذي حدثتك عنه (تضع سمايلي وجه باكي)، أعطيته الخمسمائة ليرة الوحيدة في البيت. قال لي سيكون ديناً في رقبته ووعدني أنه سيعيدها في أقرب فرصة. قال أنه بإضافتها لثمن الكؤوس البلاستيكية التي سيبيعها اليوم سيصبح المبلغ ألف ليرة. قال سيرسلها لأخيه الذي (تضع سمايلي على رأسه قبعة عسكري) في (بيت الجيران) كي يعطيها لمعلمه الذي وعده بالمقابل بأن يمنحه إجازة . أكّد لي أنه سيقنع أخيه كي لا يعود إلى هناك (تضع وجهاً مبتسماً)” .
أهدئ ابنتي وأفكر بالولد الصغير الذي أخذ الخمسمائة ليرة الوحيدة لينقذ أخاه من الموت في هذه الحرب. أفكر بصديقتي وبالوجوه التي ترسلها لتكمل الجُمل وبقلبها الرقيق الذي لن يحتمل قسوة الأيام القادمة. تقطع أفكاري أصوات الانفجارات التي يحدثها لعب المراهقين عند مدخل البناء الذي يسمونه هنا “سكن اجتماعي”. أتلصص النظر من النافذة. استغرب من أن الجميع يتجنب النظر إليهم ويتجاهلهم ومن إصرارهم على كسر هذا التجاهل. أليس هؤلاء من احتلت فرنسا بلادهم وحرمتهم من لغتهم لعقود؟ ألم يمت من أجدادهم مليون شهيد لكي يطردوا الاستعمار الفرنسي ؟ أليست فرنسا وغيرها من الدول من حرمهم من الديمقراطية ومن بناء دولتهم المتحضرة في التسعينات حين أبقت الرئيس “بوتفليقة” ولم يسمحوا للـ(متطرفين) بالوصول إلى السلطة رغم فوزهم بالانتخابات ؟ أليس الفرنسيون ودول العالم المتحضر والمتحكمين بقدر الكون هم المسؤولون عن إبقاء المومياء الحالية على رأس السلطة في بلادهم. ابتسم وأنا اتذكر مدير المدرسة الفرنسي الذي حاول أن يعتذر منهم عن حرمانهم لغتهم لعقود تطبيقاً لنظام ” الفرنسة” . سلوكهم هو اذاً عقاب. تخيلوا معي مثلاً أن يضطر الفلسطينيون للعمل والعيش عند الإسرائيليين، كيف سيتصرفون؟
كتبت لي: ” أنبني على تصرفي الذي وصفه بالساذج فهي الخمسمائة الوحيدة في البيت وقد يكون هذا الصبي كاذباً أو قد يكون مجرد شحاذ لكني لم أستطع منع نفسي من مساعدته. كانت الكلمات التي استخدمها خشنة جداً قياساً لملامحه الرقيقة. وكنت أريد بالخمسمائة ليرة ربما أن أعيد له اللغة التي تناسب طفولته.. أن أعيده إليّ، إلى مقعده في الصف الأول.. أن أشدّ الزمن إلى الوراء من كمّه وأوهم نفسي بأن لديّ جناحان أخبأ تحتهما كل الأطفال حتى ينتهي كل هذا العبث. شكرني بطريقة (تضع وجهاً باكياً). بقي محافظاً على الكثير من الكرامة. قال لي أنّه لم يطلب مالاً من أحد سواي لأنه يعرف أني لن أبوح بسرّه في البلدة. في كل مرة أتحدث معها عبر “الوتس آب” علينا أن نتلاعب على اللغة فهي لازالت هناك حيث يمكن أن تعتقل أو أقلّها يمكن تخسر وظيفتها بسبب جملة.
ها نحن نفقد اللغة أيضاً! سيتحتم علينا أن نستخدم الصور والإشارات التي يقدمها لنا (الوتس آب) و(الفايبر)، وهما وسيلتا التواصل الأساسيتان بين سوريّ الداخل والخارج .
أنظر أسفلاً الى الشرطة التي جاءت للتحقيق بموضوع المفرقعات وإيذاء المرافق العامة وعادت بدون اعتقال أحد. هنا لا يمكن اعتقال أحد بدون أدلّة جنائية وشهود، والجيل الثالث من المهاجرين يعرف القوانين جيداً.
كتبَتْ : ” لم يعد الولد الذي يبيع الكؤوس ولن يعود أخيه على ما يبدو. سقطت قطعته العسكرية في درعا.. ثم بدأت تكتب لي عن تسارع الأحداث. بدأت تكتب بكلمات واضحة المعنى بدون استخدام الوجوه والإشارات ..
ربما استعدنا اللغة ؟! لعلنا لا نفقدها من جديد عندما تتسع رقعة الدم. فالدم يخرج الناس عن وعيّهم ويحولهم لقطيع بهيمي وينسيهم وظيفة اللغة للتواصل والتفاهم. لكن طالما هناك وقت مستقطع، فلنحتفل باللغة ولنفرغ ما في جعبتنا من كل الكلمات التي حرمنا من استخدامها ومن الأحاديث التي تجنبناها. طالما هناك وقت مستقطع بين صمّتين!
اللوحة للفنان العالمي “فاسيلي كاندينسكي”
خاص “شبكة المرأة السورية”
2 Responses
لقد جفت الدموع وصارت العيون صخراً .. جفت الكلمات وصارت ذابلة كياسمين دمشق وحل اليباس في وطني .
حزن وأسى ينخر القلب ويمزقه على أطفال وطني الجريح
رائعة