خديجة بلوش
بعد حياة عاشتها الكاتبة الفرنسية المرموقة فرانسوا ساغان التي نشرت روايتها الأولى “صباح الخير أيها الحزن”، تعاني الآن في شيخوختها من وضع نقيض. فمنذ خمسين عاما كانت ساغان في السادسة عشرة من عمرها، طالبة ذكية تدعى فرانسواز كواريز، وطلب منها أن تطلب مقالة فلسفية بعنوان “كيف يمكن للتراجيديا أن تشبه الحياة؟”
وقد أجابت عن جزء من هذا السؤال في روايتها الأولى “صباح الخير أيها الحزن” التي كتبتها بعد عام من تخرجها. ومنذ أربع سنوات وهي تعاني في صمت.
باع كتابها الأول ملايين النسخ على مستوى العالم كله بعد نشره عام 1954. اعترفت ساغان أنها كانت تكتب دائما وهي تدخن وتشرب، مما عرض صحتها إلى تدهور سريع بالاضافة إلى متاعب مالية في الفترة الأخيرة مما جعلها تصل إلى درجة من الكآبة لم تصل إليها من قبل. لكن رغم ذلك كله فقد انتهت من تحضير كتابين أخيرين لها لتصل قائمة الكتب التي نشرتها إلى الأربعين.
كانت تتعرض طوال حياتها لأزمات شخصية بدرجات متفاوتة، وكان من بينها ما طولبت به من قبل المحاكم بدفع ضرائب متراكمة بلغت ما يزيد عن نصف مليون جنيه استرليني عن دخل غير معلن عنه وإلا سيتم سجنها عاما. وقد جاء هذا التهديد بعد وقوعها داخل المنزل وكسرت فيها ساقها واستطاعت أن تتماثل للشفاء بعد تسع عمليات جراحية.
وفي معرض دفاعها أمام المحكمة عن مبلغ الضرائب المبالغ فيه، قالت ساغان “لم يتركوا لي ما أتقوت به. ولا أورو واحد. إنني أعيش على كفالة أحد الأصدقاء. ومن المفروض أن أتلقى علاجا في المستشفى أيضا، لكنني غير قادرة على تحمل تكاليفه في الفترة الحالية”.
كثير من الأعمال التي أبدعتها فرانسواز ساغان قامت بتمثيلها الممثلة الفرنسية جزائرية الأصل إيزابيل أدجاني. وتحاول أدجاني حاليا إنقاذ ساغان مما تعاني منه، فهي تقوم بحملة قومية عبر فرنسا لاعتبار ساغان من المعالم الكلاسيكية الأدبية القومية في البلاد. وقد وقعت أدجاني التماسا يقول “ربما كانت ساغان تدين ببعض المال للدولة، لكن فرنسا تدين بالكثير إلى فرانسواز ساغان، وعلينا أن نرد لها الجميل تقديرا لمواهبها الأدبية التي رفعت اسم البلاد عاليا في العالم كله”. ووقع الالتماس معها عدد من كبار الكتاب مثل:فيليب سولرز، ألكسندر غاردين، ريغين ديفورجيه.
يريد هؤلاء الكتاب التماس عفو رئاسي وتقديم نوع من الضمان المادي لتعيش ساغان باقي أيامها “في جو من الهدوء والسكينة مما يتيح لها أن تخلي بينها وبين المشاكل وتخلص للكتابة فقط”.
كانت الكاتب الفرنسي الراحل فرانسوا مورياك يراها “وحشا صغيرا فاتنا”، وربما جاء هذا الوصف من قصة شعرها الهائجة التي اعتاد عليها الناس وعرفت بها، وكان سمة لشكلها الأدبي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. ورغم أحمر الشفاه اللامع والماكياج المعتنى به بدرجة مبالغ فيها، وعقد الرقبة الضخم، إلا أن ذلك لا يخفي عمر ساغان، والتي وصلت إلى السادسة والستين، وتبدو معتلة شاحبة وتعاني من مشاكل صحية كثيرة مما جعلها تختفي بعيدا عن الجمهور العام منذ فترة طويلة، منذ ظهور روايتها الأخيرة “الكأس المفقودة”.
تقول ساغان “لقد تعرضت تسع مرات لخطر الموت في حياتي”. وهي تشير إلى ما تعرضت له في الفترة الأخيرة من حياتها حيث واجهت الموت في الحادثة التي وقعت لها. وكانت تتحدث في الحوار الأخير الذي أجرته معها صحيفة الأوبزرفر عن إيمانها بالعقيدة وتجربتها المرة مع القيادة المتهورة وتحررها الجنسي وإدمانها الشراب.
أما كاتبة سيرتها صوفي ديلاسين، فتقول إن من المستحيل عليها تتبع مفردات وتفاصيل حياة ساغان، والتي تشيع فيها طلاقاتها من أزواجها الكثيرين، وتعاطيها المخدرات، وإدمان الشراب، وطابور عشاقها الطويل وكذلك أصدقاؤها الكثيرون، من تنيسي ويليامز إلى جان بول سارتر وفرانسوا ميتران.
إن ساغان وهي امرأة شابة استطاعت من خلال رواياتها العديدة أن تهز الطبقة الوسطى، مثل: صباح الخير أيها الحزن، من يحب برامز؟، وغيرها ـ مما أكسبها ملايين الجنيهات طيلة عمرها. لكن يبدو أنها استنفدت موهبتها الإبداعية عدا أن تهيمن على عناوين الصحف ووسائل الإعلام. وخلال آخر ظهور علني لها في التليفزيون، بدا أنها قد خسرت البوصلة. وقد حكت في اللقاء عن والدها الثري الذي أنفقت كل فرنك من ثروته الطائلة بالإضافة إلى كل فرنك مما كسبته أيضا من كتاباتها. كانت طيلة عمرها تفضل أصحاب الخبرة من الرجال، كما عبرت عن ذلك في أول رواياتها “صباح الخير أيها الحزن”، حيث ارتبطت فتاة بعمر السابعة عشرة برجل كبير عنها مما أدى لسقوطها بعد ذلك.
وبعد علاقة حميمة مع فيلسوف الوجودية العالمي سارتر في أيامه الأخيرة، أسست علاقة حميمة مع الرئيس ميتران الذي يشاع عنه بأنه “دون جوان” عصره.
طلب منها أن تستخدم تأثيرها لدى الزعيم الاشتراكي لتحصل على موافقة بعقد تنقيب عن النفط في أوزبكستان بدلا من شركة “الف”. لكن يبدو أنها لم تفعل أو لم تستطع أن تفعل. وقيل عن الشركة التي أقامتها باسمها أنها قد تعرضت لأزمة مالية من قبل قرض من أحد البنوك السويسرية. لكن ساغان أنكرت مدعية أن ذلك كله مجرد إشاعات.
حاولت ساغان تبرئة نفسها في حوارها التليفزيوني الأخير، فقالت إنها ضحية بريئة منذ أن اشتهرت في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد باعت مؤخرا منزلها الكائن في منطقة نورماندي.
ومن المؤسف أن نرى فتاة الأدب الأوربي الذهبية وهي تتلاشى وتتدهور أحوالها بعد مجد تربعت فيه على عرش الأدب الفرنسي فترة طويلة. أما الجزء الأكثر دهشة وإثارة في الحوار فهو المتعلق بالأسئلة والإجابات عما يعرف حاليا باسم “أدب الجسد” والجماليات التي تصاحبه، والأيقونات النسائية الشهيرة التي تكتب من خلال منظوراته، مثل الكاتبة الفرنسية كاترين ميليه التي تحكي تعرضها لمضايقات جنسية كثيرة طيلة حياتها. وبخصوص أول رواياتها فتقول ساغان “إنني أكره هذه الرواية فالناس لا تعرفني إلا من خلالها رغم أنني كتبت بعدها أكثر من ثلاثين رواية”. ثم أشعلت سيجارة وهي تزفر في ضيق كبير.