جمانة علي
يزداد الاهتمام بين أوساط العاملين في مجال التنمية في مناطق خرجت من صراعات دموية بأشياء تتجاوز الحرمان المادي أو تأمين مواد البناء والأغذية. وفي حين سعت المنظمات الإنسانية للتخفيف من معاناة المصابين بالأمراض النفسية بعد انتهاء الحروب الأهلية مباشرة، كان هناك عدم تواصل بين الجهود الإنسانية والتنموية، وقد اتسمت جميع تلك الجهود بقصر أمدها، وبتنفيذها على يد منظمات خارجية غير حكومية سرعان ما تنهي أعمالها حال الاعتقاد بأن الأزمة الإنسانية باتت تحت السيطرة.
وبدون شك، هناك إدراك عام بأنه ما من إنسان عاش في ظل حرب أهلية إلا وتأثر بشى أنواع الأضرار النفسية والجسدية. ولكن نوعاً من المعاناة والآلام، قد لا يدركها إلا من خبرها، وهي الآلام النفسية والمعنوية التي تتركها جرائم الاغتصاب في نفوس الفتيات والنساء، وآثارها النفسية البعيدة المدى.
تجاوزات بحق النساء
وتركز عادة جميع عمليات نزع الأسلحة ووقف انتشار المظاهر العسكرية وإعادة دمج فئات المجتمع بعضها ببعض، على الرجال البالغين وعلى الفتية. وفي حين تركزت الجهود الأخيرة على اتخاذ مواقف أكثر عدالة من النساء، فإنها أخفقت في معالجة التحولات المعقدة التي تبنى على تسلط الذكور المسلحين على الفئات الأضعف، وهم الإناث عادة، وما يتبع ذلك من تجاوزات يدخل الاغتصاب والعنف المنزلي والزواج القسري في إطارها. وعلى سبيل المثال، أظهر بحث أجراه مؤخراً معهد التنمية فيما وراء البحار، وهو هيئة فكرية بريطانية مستقلة تعنى بالقضايا التنموية والإنسانية، لصالح مؤسسة ” ريبيلد”، وهي هيئة إنسانية وتنموية في سيرلانكا، بروز ظاهرة في شرق البلاد الذي شهد صراعاً دموياً، وتأثر بتسونامي، وهي هجرة النساء إلى منطقة الشرق الأوسط للعمل كخادمات، تاركات أطفالهن في عهدة آبائهم أو أجدادهم. وقد أدت هذه الظاهرة، من بين عدة أشياء أخرى، لزيادة معدلات الإهمال والتحرش الجنسي بين العائلات. ولكن هناك مثال آخر مختلف برز أيضاً من خلال بحث أجري في ليبيريا، برعاية مؤسسة ريبيلد أيضاً، وهو يوثق لعودة ظهور المدارس الريفية والتي اختفت إلى حد بعيد إبان الصراع المسلح الذي شهده ذلك البلد الأفريقي. وتعمل تلك المدارس على تدريب المراهقين على ممارسة الأدوار التقليدية والثقافية المتعارف عليها في المنطقة.
تجاهل حاجات أساسية
ولكن، بحسب خبراء في علم الاجتماع، كثيراً ما تتجاهل برامج التنمية ضروة تقديم الدعم النفسي بعد انتهاء الصراعات، وهي حاجة أساسية وطويلة الأمد، وخاصة بالنسبة للفتيات والشابات اللاتي يكن عرضة لمواجهة مخاطر تتعلق بجنسهن، ومن بينها العنف الجنسي.
وفي بلد متوسط الدخل مثل سيرلانكا، وحتى عندما تتوفر خدمات وليدة لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، فإنها غالباً ما تكون طبية وتراعي الحساسيات الجنسية، وتتم داخل مشافي ومراكز الصحة العقلية التي يمتنع السكان المحليون عن ارتيادها. ومن يتلقى عادة تلك الخدمات يكونون من الذين يعانون من أشد أنواع الأمراض العقلية، ونتيجة لذلك لا تصل تلك الخدمات للغالبية العظمى من الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية اجتماعية كالاكتئاب وما شابهه.
وفي دول متدنية الدخول مثل ليبيريا ونيبال، تقل خدمات العلاج النفسي إلى الحد الأدنى، وتركز الخدمات الصحية على توزيع الأدوية وتنفيذ متطلبات الطب الشرعي، عوضاً عن توفير العلاج النفسي وتقديم الدعم العاطفي. وغالباً ما يكون لذلك القصور أكلاف باهظة، وهي تعيق إعادة بناء النسيج الاجتماعي بعد سنوات من التوتر والآلام، كما تمنع ظهور علاقات أكثر رسوخاً ومساواة بين الجنسين.
عملية مصالحة
وفي حين شهد عدد متزايد من الدول عمليات مصارحة ومصالحات بعد انتهاء الصراعات، وكان أكبر مثال على ذلك ما جرى من خلال لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، وما أشار إليه بحث أجراه معهد التنمية الدولي ومنظمات أخرى إلى أن تلك العمليات لم تكن تتعامل بطريقة مفيدة مع حقائق الحياة اليومية، وخاصة فيما يتعلق بالفتيات الصغيرات والشابات.
ورغم أهمية مثل تلك العمليات، فإنها تنحو لأن تتم بشكل سطحي ولا يسعى القائمون على تنفيذها للتعمق في مشاكل المجتمعات وإجراء حوارات بناءة. ومن المؤكد أن مثل تلك المحاولات تمثل تحدياً كبيراً، وهي تفيد في ضمان استمرارية إجراء حوارات بناءة شاملة قدر المستطاع، وهي ضرورية لكي يفهم الرجال والنساء والصبية والفتيات تجارب واحتياجات بعضهم البعض من أجل تحقيق سعادة وراحة نفسية أوسع وأشمل.
نشاطات اجتماعية وأسرية
وعلى الطريق نحو تحقيق ذلك الهدف، لا بد من إقامة بنى اجتماعية وأسرية (مثل منتديات الشباب، وتوفير الأماكن الفسيحة الآمنة للاستشارات الخاصة بالرجال والنساء والأزواج، ولإقامة المناسبات الاجتماعية)، مع وجوب مراعاة الحساسيات الثقافية والديناميكيات الجنسية. ومن شأن هذا المنهج أن يوفر فرصاً للحديث ولتبادل الخبرات التي يدعمها أخصائيو الطب النفسي. ولكن، سوف يتطلب ذلك حدوث تحول في أفكار العاملين في حقل التنمية بشأن ما يكون النشاطات المناسبة، وما تتطلبه من دعم مادي، وخاصة عند الأخذ بعين الاعتبار أوجه العجز النفسية والاجتماعية التي يصعب قياسها، وإدراك حقيقة أن أثر مثل تلك الجهود يتطلب وقتاً قبل أن يعطي ثماره.
عنف جنسي
ومنذ نهاية التسعينيات، استطاع المجتمع الدولي توقيع معاهدات وطور وسائل من أجل التصدي للعنف الجنسي الناتج عن الصراعات. وفي الآونة الأخيرة، شجعت حكومة المملكة المتحدة وزارة الخارجية على أطلاق مبادرة منع العنف الجنسي، ونظمت قمة عالمية لإنهاء العنف الجنسي في الحروب، من المقرر أن تعقد في شهر يونيو( حزيران) للعام الجاري. وتعد هذه تطورات إيجابية على طريق إنهاء العنف، وقد تفيد في إرسال رسائل قوية بشأن عدم قبول وقوع أية انتهاكات جنسية أو أخلاقية إبان الحروب, ولكن تلك الجهود تتجاهل العنف الجنسي والجسدي الذي يحيق بالمرأة يومياً وفي كل مكان، والذي يحيل حيات ملايين الفتيات والنساء إلى جحيم.
ومن الجدير بالذكر، أن العنف الجنسي يسبق الصراعات ويبقى بعدها، وهو يمارس داخل البيوت، بين الأزواج المتفاهمين، وفي الشوارع، وفي المدارس وداخل المراكز الصحية. ومن هنا لا بد لنا من أن نتساءل عما إذا كان العنف الجسدي بحق النساء خلال الحروب ظاهرة عادية، وإلى أي مدى يعتبر العنف الجنسي غير المرتبط بالحروب، هو بكل بساطة، أمر عادي. ففي الواقع، يعد” العنف” في صورة التهديدات والحقائق اليومية، والترهيب شيء يؤدي للإضرار بنساء وفتيات وصبية ورجال أيضاً. ومن هنا لا بد لنا من أن نعترف بأن العنف الجنسي لا يستخدم كسلاح حربي، وحسب. إنه جزء من العلاقات بين الجنسين في وقت السلم، وهو يتغذى ويتصاعد في زمن الفوضى والحروب.
وقد أثبتت دراسات أجريت حول العالم بأن العنف الذي يمارس ضد النساء يستمر، وحتى يتصاعد بعد وقف الحروب. وبالإضافة إليه، كثيراً ما يؤدي تصاعد العنف الجسدي ضد النساء في المجالات الخاصة والعامة، وعند وقوع صراعات للتسبب بمعاناة تغير سيرة الحياة، مثل حالات حمل غير مرغوبة، والإصابة بالتهابات جنسية، وفقد رب الأسرة، والنزوح وفقدان الأمان الاجتماعي ـ الاقتصادي، وهو بدوره يضاعف من تعرض المرأة للعنف الجنسي وللاستغلال.
ولكن، بدون تطبيق مشاريع لعلاج المتضررين جسديا ومعنوياً من آثار العنف الجنسي والاغتصاب، يخاطر المجتمع الدولي والحكومات الوطنية بأن تبقى جهود تحقيق السلام والاستقرار أشبه بطبقة لامعة رقيقة، عاجزة عن تطعيم المجتمعات بالقوة النفسية اللازمة لبناء مجتمع مختلف، ولدوام السلام، وهو أمر لا يتحقق إلا بالتصدي لنتائج وتبعات الحروب على نفسيات النساء والفتيات خاصة، وذلك لأنهن أمهات الجيل القادم، ولا بد لأن يتمعن بالصحة النفسية والجسدية المناسبة لكي يتمكن من إنشاء أبناء المستقبل على أسس سليمة كفيلة بدوام السلام والأمان والوئام.
اللوحة للفنانة العالمية “فريدا كالو”
خاص “شبكة المرأة السورية”