وجدان ناصيف
منذ أسبوع خرج رجل ستيني من أحد الأفرع الأمنية بعد اعتقاله لمدة شهر. عند السؤال عن أحواله، قيل لي : ” مصاب بتجفاف شديد وبتقرحات جلديّة، لكن المشكلة الأهم أنه ومنذ خروجه لم يتوقف عن البكاء مكرراً الكلمات ذاتها: “لا أستطيع إخراج أصواتهن من رأسي … كنّا نقول لبعضنا في المهجع، ليتهم يقتلونا جميعاً ويكفوا عن تعذيب النساء… لا يمكن لأي آدمي أن يحتمل كل هذا … كان صراخهنّ يفتك بأرواحنا ويهشمنا ويرمينا في بئر عجزنا العميق!”
ذكّرني حديث الرجل ببرنامج بثته قناة النظام الفضائية في العاشر من شهر آذار هذا العام. عرض البرنامج تقريرين للقاءات مع بعض المعتقلين الرجال والنساء في سجن عدرا المركزي. تقول مقدمة البرنامج تعقيباً على اللقاءات: ” … عدد (لا بأس به) من السجينات طلبوا منّا أن لا نذكر بأنهن موجودات في سجن عدرا، بينما أهاليهن يعتقدون أنهنّ في الأفرع الأمنية… نحن هنا لنقول لهم أنهنّ في سجن عدرا … وقد دخلتُ المهاجع شخصياً وفوجئت بما رأيت… (تضحك) … صراحة ما توقعت هيك!!”، تقول وتكمل ضحكتها، ثم تضيف: ” …هناك نساء يخرجن من السجن ولا يرجعن الى بلداتهن وذويهن لأسباب شخصية أو اجتماعيه ويبقي الكثير من الأهالي معتقدين أن بناتهن لا زلنّ معتقلات”.
هَدَف عرض هذه المقابلات إلى القول أن لا نساء معتقلات لدى النظام إلا عدداً (لا بأس به) في سجن عدرا المركزي، وهؤلاء لا يرغبن أن يعرف ذويهن بأمر وجودهنّ في السجن، وأنهم احترموا هذه الرغبة ويخاطب الأهالي في المناطق التي تجري فيها (مصالحات) : إن كان لديكم ابنة معتقلة فهي إما لا تريدكم أن تعرفوا أنها متواجدة في السجن المدني (المريح) أو “خرجت وهربت من خوفها منكم”! حاول البرنامج أيضاً كسر تنميط النظام كقاتل لآلاف المعتقلين الموثقين وكمنتهك للقانون الدولي، فكل الاعتقالات الحاصلة قانونية، والمشكلة الوحيدة، وفق عمار بلال (قاضي في محكمة الارهاب)، تتلخص في أن:” الشعب السوري جاهل بالقوانين”!
بالمقابل، لخصت ردة فعل المعارضين تجاه اللقاءات المحاولة المستّمرة لدى الثوريين لتكريس التنميط : فكل أهالي المناطق المنتفضة ثوار, وكل المعتقلات السياسيات مؤمنات بالثورة. فمن غير المعقول بالنسبة للكثيرين أن تضع المعتقلات مساحيق التجميل أو أن يستعرضنّ ظروفهنّ ويتوسلنّ لإطلاق سراحهنّ أو أن يذكرن أنهن يِعاملّن معاملة حسنة في السجن المدني طبعاً مع أن “المعاملة الحسنة” هنا نسبية عند مقارنتها بظروف الاعتقال في الأفرع الأمنية.
لكن جميعنا يعرف أن جزءاً مما قالته مقدمة البرنامج صحيح : هناك معتقلات يخرجن من المعتقل ولا يعدنّ الى المكان الذي تركنه قبل الاعتقال، بعضهن بدافع الخوف من عقاب الأهل والمجتمع الذي لم يصبح مهيئاً رغم كل ما حصل لاحتواء النساء المعتقلات والمغتصبات.ً هناك أيضاً معتقلات لا تنطبق عليهن صفة سياسيات أو معارضات أو أي من التصنيفات الثورية الأخرى، وهذا ينطبق أيضاً على المعتقلين من الرجال . لكن الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها هي أن آلاف المعتقلات يقبعن حتى هذه اللحظة في الأفرع الأمنية المختلفة ويذقن صنوف العذاب وشتى أنواع الإهانات يومياً وهناك شهود على ذلك من أمثال الرجل الذي نسيّ آلامه كلها ولم يبقَ في ذاكرته إلا أصوات ألمهن.
في معظم افلام “الأكشن” ، يتكرر المشهد ذاته : البطل يحاول إنقاذ ابنته أو حبيبته من أيدي الأشرار، يُسرع بسيارته هرباً فيما سيارات الشرطة وسيارات العصابة تطارده. في طريقه نحو هدفه يصدم البطل ويحرق ويدمّر ويحطم عشرات المارين بسياراتهم في الشوارع ويدهس عشرات الواقفين على الأرصفة وحين يحرر حبيبته أو أي يكن في نهاية الفيلم يفرح الجمهور لوصوله ويصفق لبطولته الخارقة !
معظم الذين قهرهم التقرير ربما لم يشاهدوا الجزء الأول من البرنامج. وحتى لو شاهدوه واستمعوا لحديث بعض الرجال من المعتقلين لوصفوهم ربما بأنهم موالون أو عملاء أو ربما مجبرين أو أي سبب آخر ولن يذكر أحد أنه صدف ربما أن كانوا هناك، إلى جانب مظاهرة حين أُلتقطت الصورة، أو تصادف أن كان اسم أحد أحياء حمص أو دوما أو داريا على هويتهم، أو تصادف أن وجدوا على رصيف “الثورة” في لحظة حاسمة من المشهد العنيف تمام مثل أولئك الذين صادف مرورهن أمام سيارة البطل المنقذ لحبيبته في فيلم “الأكشن”.
كيف نسينا في معمعة المعركة التي يخوضونها ضدنا أن “نُؤنسننا”؟ أسوء ما حصل لنا أننا نسينا أننا بشر وأننا نختلف عن بعضنا في طريقة مواجهتنا وفي قدرتنا على التحمل وفي دوافعنا وفي التصاقنا بمفاهيم الثورة! الشعب السوري ليس (واحداً) كما تمنينا ولن يكون!
بعضنا انخرط في الثورة راغباً وبعضنا دخلها مرغماً: مرغماً أصبح “ثورياً” ومرغماً أصبح “معتقلاً سياسياً” ومرغماً أصبح “ثائراً مسلحاً” أو ” شهيداً” ، ولو قرأنا تاريخ الثورات لما وجدنا ثورة واحدة انخرط فيها كل الشعب أو حتى نصفه بنفس السويّة.
ولكي “نؤنسننا” يجب أن نتذكر دائماً أنه في السجن وفي خيمة اللجوء وفي أي مكان تتواجد فيه النساء سيكون هناك (ماكياج) وتصفيف شعر وحديث في الحب والطبخ. هي وصفة أنثوية مجربة لمقاومة اليأس والموت. علينا أن لا ننسى أنه غالباً أينما يتواجد الموت بكثرة تتواجد الرغبة بالجنس وبالإنجاب، وأينما وجد الخوف من المجاعة تهافت الناس لسلب بعضهم بعضاً الطعام وإزداد عدد الشرهين، فالخوف من الجوع يجعلنا نأكل مقداراً أكبر ظناً منّا أننا سنخزّنه داخلنا للمجاعة القادمة. لكي نفهمهم علينا أن “نذكّرنا” دوماً بألف باء السلوكات الطبيعية للكائنات الحية وردود أفعالها.
جزء كبير من مجتمعنا السوري مثل الضحايا المنسيين في أفلام “الأكشن”: هم المصدومون والمحطّمون والمكدّسون فوق بعضهم فيما أعين المشاهدين مثبتة على أطراف الصراع! هؤلاء عبّر عنهم المعتقلات والمعتقلون في سجن عدرا المركزي عند السؤال :” ماذا تريدون؟ ” كان الجواب ببساطة :” لا نريد شيئاً سوى الخروج! ” … هم يريدون الخروج من هناك وأيضاً الخروج من تصنيفاتنا، وهذا حقهم الطبيعي، حقهم في أن “نُؤنسِنهم” ونكفّ عن أسرهم في أنماط هي غالباً موجودة في عقولنا فقط.
اللوحة للفنان “نهاد الترك”
خاص “شبكة المرأة السورية”