ورد العلي
حلا فتاة من مدينة حمص تقيم في مدينة الرقة منذ ما يقارب خمس سنوات مع والدتها وأخيها الصغير. توفي والدها منذ ثلاث سنوات، وبقيت في الرقة مع والدتها، فهنا منزلها الحالي وما تبقى من عائلتها، إضافة إلى دراستها في جامعة الاتحاد الكائنة في هذه المدينة.
بعد سيطرة داعش على الرقة بشكل كامل مطلع 2014، إثر اشتباكات استمرت عدة أيام مع الجيش الحر، وما رافق تلك السيطرة من انتشار لعمليات الخطف والقتل والاعتقالات التعسفية بحق العديد من الناشطين، وما إلى ذلك من انعدام للأمن وانتشار الملثمين بكثره في شوارع المدينة، بعد ذلك كله قررت عائلة حلا العودة إلى مدينتها الأصلية حمص. رتبت حلا ووالدتها للسفر ومغادرة المدينة نهائياً، واتجهتا إلى الكراجات للعودة إلى حمص برفقة أخيها ذي السبع سنوات، وعند طلبهم لبطاقات السفر قام أحد عناصر “داعش” المتواجد في منطقة كراجات الحجز بإيقاف حلا وعائلتها ومنعهم من الحصول على التذاكر، بحجة عدم وجود المحرم الذي يجب أن يرافقهم في سفرهم ليستطيعوا الخروج من الرقّة.
حاولت والدة حلا أن تشرح للعنصر أنه ما من أقارب لهم في المدينة، فهم غرباء عنها، أقاموا فيها بداعي العمل فقط، وأن زوجها متوفى منذ ثلاث سنوات ولم يبقَ لها ولابنتها محرم سوى طفلها الصغير (قيس)، لكن العنصر لم يقتنع بكلامها، وقام بطلب دورية تتبع لهيئة الحسبة آمراً عناصرها بأخذهم لمقر الهيئة.
تقول حلا: “في مقر الحسبة شاهدنا الكثير من النساء المحتجزات، برفقة أطفالهن بتهم مختلفة، فواحدة منهن كان نقابها شفافاً، وواحدة كانت تمشي مع أحد أقاربها غير المحرمين عنها، وأُخرى كانت عباءتها ضيقة، لذا أخذن إلى هيئة (الحسبة) حتى ينلن عقابهن، أو يحضر أحد أقاربهن المحرمين (أب، زوج، أخ) ويوقع على ورقة يتعهد فيها بعدم تكرار المخالفة تلك”.
تكمل حلا القصة، فتقول: “كان ممنوعاً علينا التحدث في تلك الهيئة إلا عند سؤال أحد العناصر أو القاضي لنا، حتى أن الجواب يجب أن يكون مختصراً ومناسباً لأفكارهم، فلا يكون مستفزاً لأحدهم. وعند سؤالنا عن سبب سفرنا بمفردنا وإجابة والدتي لهم بأن والدي متوفى وما من محرم لدينا سوى أخي الصغير عسى أن يقبلوه محرماً، رفضوا ذلك وطلبوا منها عدم إكمال حديثها، وأخبروها أن هذا ليس من شأنهم، وأن علينا تدبّر أمورنا، وفي حال بقينا مصممات على السفر بمفردنا سيتم حبسنا في مقر الحسبة ومحاكمتنا على أساس أننا نخالف قرارات أمير المؤمنين (أبي بكر البغدادي) فنكون قد خرجنا بذلك على طاعته، دون أن نعلم نوع العقوبة التي قد نتعرض لها.
لم ندرِ أنا وعائلتي ما نفعل، فبقاؤنا في المدينة بات مستحيلاً بدون وجود محرم. عادت والدتي تحاول مع القاضي، طالبة منه أن يمنحنا إذناً بالسفر لمرة واحدة فقط، لكنه رفض مجدداً، والأمير (أبو مجاهد السعودي) أحد الأمراء في ذلك المقر يردد على مسمع أمي: (تطلبين الإذن منا للسفر بمفردك مع ابنتك الشابة، وأنت بكامل زينتك وتبرجك؟) مع العلم أنها كانت ترتدي عباءة فضفاضة وتضع النقاب وتلبس قفازين، ولا يظهر من وجهها سوى عينيها، دون أن تضع عليهما أي نوع من أنواع مستحضرات التجميل، ورغم صراخه في وجهها ونعته لها بالفاسقة، إلا أنها لم تستطع الرد على كلامه ذلك خوفاً من بطشه.
بعد أن أنهى أبو مجاهد السعودي حديثه، تدخل القاضي وعرض على والدتي أن تخرج من مقر الحسبة برفقة محرم بطريقة شرعية، وعند سؤالها له عن كيفية هذا الحل، قال لها: (تقبلين بتزويج ابنتك الشابه هذه لأحد عناصر التنظيم، وبهذه الحالة يصبح لديكما محرم وتستطيعان السفر خارج حدود الولاية أينما شئتما ومتى أردتما).
كانت هذه إحدى طرق داعش لتقبل عوائل الفتيات تزويج بناتهم لعناصر التنظيم، وقد سمعنا عن حالات كهذه من قبل لكننا لم نكن نتخيل أن ذلك سيحصل معنا يوماً.
صدمت والدتي عند سماعها لذلك العرض من القاضي، ورفضته مباشرةً، وأخبرته أني مخطوبة لابن خالتي المقيم في مدينة حمص، وأن قراننا معقود، وزفافنا سيتم بعد شهرين أو أقل، ولذلك سنذهب لنقيم في حمص، واعتذرت منه لأنها مضطرة للرفض. كان اعتذارها نابعاً من خوفها علي وعلى نفسها أيضاً، فنحن نعلم أنهم لا يحبون سماع كلمة لا، وأن كل ما يتقبلونه هو أن يقال لهم: سمعاً وطاعة، فنحن في “دولة الإسلام”، وهم “ولاة الأمر”.
لم يردّ القاضي علينا بأي حرف، وأمر بإعادتنا للحجز إلى أن يطلب منهم الإفراج عنا. بقينا محتجزات لمدة سبع ساعات في ذلك المقر،ثم أخلوا سبيلنا بعد عرضنا مجدداً على ذلك القاضي، ليتأكد من عدم مخالفتنا لأوامر الدولة وقراراتها ثانية. عدنا بعدها لمنزلنا في مدينة الرقة، ولم نستطع الخروج والسفر منها إلا بعد مرور شهر على تلك الحادثة، عندما اتصلت والدتي بأهلها وأخبرتهم أننا لن نستطيع مغادرة الرقة إلا بوجود محرم، فتواصلوا مع أحد أخوالي المقيم في تركيا، وطلبوا منه العودة إلى سوريا والقدوم إلى مدينة الرقة، ومرافقتنا إلى حمص، وبالفعل بعد شهر استطاع خالي القدوم إلينا واصطحابنا معه. عند ذهابنا إلى كراج البولمنات من جديد كان ذلك العنصر الذي أخذنا إلى مقر الحسبة أول مرة موجوداً، راح يدقق في هوية خالي كثيراً، يحسب أننا نقوم بفبركة الأمر حتى نستطيع السفر دون اعتراضهم لنا، وأنه ليس قريباً لنا. وبعد تأكده من صحة الهوية سمح لنا بالحصول على بطاقات السفر، مؤكداً أنه اتخذ هذه الإجراءات لضمان سلامتنا وأمننا، وأنهم يسعون للحفاظ علينا في دولتهم. وهكذا انتهت رحلتنا في البحث عن محرم ووصلنا إلى حمص بخير”.
اللوحة للتشكيلية السورية “سهير السباعي”