بيروت – أسامة قادري
صحيح أن أكثر مَن يدفع ثمن الحروب هم الأسر الفقيرة بمن فيها من نساء وأطفال وعجزة، وبينهم مَن يدفع الثمن دماً وأملاكاً، الا ان «الفاتورة الكبرى» تكون عند نزوح مجتمع بأكمله بما يحمله من عادات وتقاليد، الأمر الذي يضعه أمام تحديات الحياة والاستمرار.
ولأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تتحمل الفراغ، ولأن أيّ محاولة لسدّ هذا الفراغ تُحدِث تحولات في مجتمعٍ يعيش الركود، فإن هذا ينطبق بطبيعة الحال على النازحين السوريين في لبنان الذين بلغ عددهم، بحسب إحصاءات الامم المتحدة، نحو مليون و300 ألف مسجلين في لوائحها.
والواقع أن هذا العدد رتّب تداعيات على صعيد لبنان ولا سيما لجهة إحداث تخمة في سوق العمل تحوّلت معها اليد العاملة السورية، الى أشبه ما يسمى بـ «السخرة» (أي العمل مجاناً بما لا يفي قوت العامل اليومي)، وهو ما اضطر أرباب هذه الأسر إلى أن يتكل غالبيتهم على عمل المرأة، رغم طبيعتهم «المحافِظة» التي تجعل القليل منهم يقبلون بعمالة المرأة، أختاً أو بنتاً او حتى الزوجة.
نادراً ما تجد محلا تجارياً أو مكتباً عقارياً أو مكتب محاماة أو عيادة طبيب لا تعمل فيه موظفة سورية، كون الراتب الذي تتقاضاه أقل من نصف الحد الأدنى للأجور في لبنان. حتى أن غالبية البيوت التي يستقدم أصحابها بالعادة عاملات تنظيف من جنسيات آسيوية باتوا يلجأون إلى سوريات لمساعدة ربات المنازل في العمل المنزلي بشكل اسبوعي.
وكما أن لهذه الحالة انعكاسات سلبية، فإن لها أيضاً تداعيات إيجابية على حياة المرأة في زمن الثورات العربية، وتحديداً لجهة إحداث صدمة انتعاشية على صعيد واقعها وموقعها الاجتماعي ولا سيما في الأسر التي تقيّدها التقاليد والعادات القائمة على الوصاية الذكورية، فإذ بظروفها السيئة تُخرِج النساء من تحت تلك الوصاية إلى حياة المسؤولية والاستقلالية، وإثبات الذات في محاولة منهنّ للمحافظة على ما أعطته لهن تلك الأزمة من حرية وقوة شخصية.
وإذا كان لبنان منذ ما قبل الأحداث السورية يعاني المنافسة العمالية السورية في جميع قطاعات المهن الحرة، فإن ما طغى على المشهد بعد اندلاع الثورة هو المنافسة غير المسبوقة من العاملات السوريات اللواتي وجدن أنفسهنّ عرضة لشتى أنواع الابتزاز والاستغلال لحاجتهن إلى المال للعيش ودفع تكاليف الحياة اليومية، من ثمن إيجار المنزل وأكلاف المأكل والمشرب والتدفئة وهو ما يعجز أن يتكفّل به معيل واحد للأسرة.
أقفلت بوجه «ربيعة» (ابنة داريا) جميع الأبواب لأن تجد عملاً لها ولو براتب 200 دولار لتتمكّن من تربية ولديها ودفع كلفة إيجار المنزل الذي استأجرته شراكة مع خالتها وبناتها. فـ ربيعة التي حوّلتها الأزمة أرملة وهي في ربيع شبابها، تدفع اولاً ثمن الأزمة في بلادها وثانياً ثمن جهل الأهل الذين أرغموها على الزواج وهي بعمر الخامسة عشرة لتجد نفسها وهي في الـ 19 مسؤولة عن حياتها وحياة طفلين رضيعين، بعدما فقدت زوجها في بداية الأحداث في سورية .
وتقول ربيعة ودمعة العتب في عينيها: «الأهل يختبئون خلف عادات وتقاليد مظلمة». عبارة اللوم لا تخلو من تنهيدة طويلة، لتردف بعدها: «الكل هرب من المسؤولية أهلي وأهله، قالوا لي»كل واحد همو مكفيه«، ما اضطرني إلى تحمل استغلال أصحاب الشغل، وأحياناً أسكت عن تحرشاتهم حتى لا اخسر عملي، بعدما انسحب أهلي وذوو زوجي من المسؤولية.
بدورها جهينة ابنة القابون الدمشقي، أسعفتها شهادتها في الأدب العربي لأن تجد لها عملاً في إحدى مكاتب الترانزيت، براتب 300 ألف ليرة لبنانية أي ما يعادل 200 دولار أميركي، هي التي رفض زوجها أن تعمل في دمشق قبل الأحداث، ليجد نفسه تحت ضغط واقعه المزري يقبل بأن تعمل وتسدد عنه العجز الذي يقعون فيه.
وتشرح جهينة حاجتها للمال كون زوجها لم يجد له فرصة عمل»ولأن ما تقدمه لنا مفوضية شؤون اللاجئين لا يكفي ليسد أجرة المنزل وتكاليف الحياة وأولادنا الأربعة«، وتقول:»بدل إيجار البيت 400 دولار نتقاسمه مناصَفة مع شقيق زوجي… «ما في بحصة إلا وتسند جرة». وتشرح أن حياتها وعلاقة زوجها معها تغيرت عما كان عليه في سورية: «بسورية ما كان زوجي يخليني اطلع عالسوق الا وبرفقتي حدا أمي أو أختي أو سلفتي، اليوم في لبنان ما عاد هاد الشي موجود»، لتختم أن التغيير طال الجميع «كل شيءتغير» الاختلاط مع مجتمع مختلف وعادات مختلفة أكسب غالبية العائلات النازحة تغييراً وتجدداً «كان البعض يحلم به» على حد تعبير جهينة.
أما نهلا الشابة ابنة الـ 22 عاماً، والنازحة من درعا، فوجدت نفسها تتحمّل مسؤولية أمها واخوتها الصغار، فوالدها قُتل خلال عمليات العنف في مدينتها، ما اضطرها لأن تنطلق إلى سوق العمل وتواجه سلبيات وإيجابيات الحياة.
لم يثنها عن العمل استغلال وابتزاز بعض أصحاب العمل، وهي عملت في أكثر من ستة أماكن مختلفة عن بعضها وفي اختصاصات متنوعة. بداية عملت في محل للألبسة لمدة شهر ونصف الشهر، واستقالت بعدما فشلت في وقف تحرشات صاحب المؤسسة ما اضطرها لأن تفتش عن عمل آخر، وهكذا تنقلت من عمل إلى عمل، لتستقرّ حالياً في محل لبيع الأدوات المنزلية براتب 350 ألف ليرة لبنانية شهرياً، أي ما يعادل 233 دولاراً اميركياً. ولكونها تسكن في منطقة المصنع الحدودية، ومركز عملها في شتورا، تضطر أن تدفع شهريا نحو 50 دولاراً تكلفة النقل ذهاباً وإياباً.
وتحاول نهلا أن تظهر الجانب الايجابي من حالة النزوح لجهة صقل شخصيتها وأخذ دورها المسؤول في الحياة الاجتماعية والعائلية، معتبرة أنه لولا الظروف الصعبة لبقيت كأي فتاة مسلوبة الإرادة والاختيار، ومضيفة: «الاختلاط مع المجتمع أعطاني قوة. في سورية كانت حريتنا مقيدة وكنتُ تحت الوصاية».
بدورها «هبة» ابنة حمص، ما كانت تتوقع لو بقيت في سورية أن تأخذ دورها في الحياة وأن تضطلع بالمسؤولية في مساعدة أسرتها وأن تصقل شخصيتها.
ورغم ظروفها الحالية السيئة مقارنةً مع ما كانت تعيشه في بلدها ومنزل ذويها، ترى أن خوضها غمار العمل والاحتكاك مع الناس أعطاها قوة شخصية، كما جعلها تسعى جاهدة لأن تدخل عالم الإعلام من خلال قبولها العمل مندوبة إعلانات لإحدى المجلات الثقافية المحلية في منطقة البقاع اللبناني، وهو ما أكسبها خبرة التعاطي مع المعلنين وعموم الناس.
وتقول: «كان حلمي أن أعمل في مجال الإعلام. وصحيح»تمرمرت بس حسيت حالي انسانة قوية بس طلعت عالشغل«، لتضيف:»قبل الثورة، كان ممنوعاً أن نظهر على زوج خالتي وأولادها وغيرهم، اليوم نحن وبيت خالتي وأولادها نسكن في بيت واحد ونسهر في الغرفة نفسها مع بعضنا البعض، اي ان هناك قيوداً كتير تكسرت، و«طبعا ما عاد نرجع مثل الاول». وهذه العبارات تؤكد مدى المتغيرات التي طرأت على حياة الأسر السورية المحافِظة مع انتقالها قسراً الى لبنان، ما يدل على أنه لم يعد من السهل عودة هذه العائلات ولا سيما الإناث فيها الى حياتهنّ السابقة.