ناصر ونوس
قليل ما تجد امرأة تتخذ من الإخراج السينمائي مهنة لها. لكأن هذه المهنة مقتصرة على الرجال. مع ذلك، هناك استثناءات دوماً. فينا توريس Fina Torres واحدة من هذه الاستثناءات. مخرجة وكاتبة ومنتجة سينمائية فنزويلية الأصل، رغم قلة المخرجين الفنزويليين قياساً بأقرانهم من بقية دول أمريكا اللاتينية المجاورة، تعيش متنقلة بين الولايات المتحدة والمكسيك. قائمة أفلامها ليست طويلة، فهي لم تتجاوز الخمسة أفلام حتى الآن، إضافة إلى فيلم تلفزيوني. لكنها نالت اثنتا عشرة جائزة على إخراج وكتابة وإنتاج فيلمها الروائي الأول “أوريانا”، أهمها جائزة الكاميرا الذهبية لمهرجان “كان”. وأفلام توريس تدور في معظمها حول النساء والقضايا المتعلقة بهم.
ولدت فينا توريس في التاسع من تشرين الأول/ أوكتوبر عام 1951 في العاصمة الفنزويلية كاراكاس. درست التصميم والتصوير والصحافة قبل أن تنتقل إلى باريس لدراسة السينما. بعد تخرجها عملت كمونتيرة ومصورة ومشرفة على النصوص لدى إحدى شركات الإنتاج السينمائية. بدأت بإخراج الأفلام القصيرة والوثائقية، إلى أن أخرجت فيلمها الروائي الأول “أوريانا Oriana ” عام (1985). وهو يتحدث عن ماريا (لعبتها دانييلا سيلفيرو)، المرأة الفنزويلة التي
تعيش في فرنسا وتتلقى رسالة تفيد بأن عمتها أوريانا (دوريس ويليس) قد توفيت تاركة لها مزرعة في إحدى مناطق فنزويلا النائية، حيث قضت ماريا بضعة أيام جميلة في مستهل صباها. فتناقش ماريا مع زوجها مسألة بيع المزرعة، بل ويجدان المشتري، ويسافران إلى فنزويلا، وعندما يصلان إلى المزرعة يجدان بيتاً قديماً مغبرّاً وسط غابة استوائية عند شاطئ البحر. تتجول ماريا في أنحائه مستعيدة ذكريات الأيام التي قضتها بين أرجائه. تفتش في أوراق ومقتنيات عمتها فتكتشف جوانب من حياتها. ومن خلال اللقطات والمشاهد الاستعادية (فلاش باك) يظهر لنا الفيلم ماريا التي تحاول فهم الجو الهادئ والغريب الذي يحيط في المكان والسبب الذي جعل عمتها أوريانا متمسكة به ولا تغادره. إنها تستعيد صورة عمتها الشابة، ووالدها القاسي الطبع، وحبها الأول. تستعيد جوانب من سيرة حياة عمتها، وتحديداً الجوانب المريرة في تلك السيرة، مثل علاقتها مع والدها الذي كان يعاملها بقسوة، ووحدتها في هذه المزرعة النائية والمعزولة عن المجتمع. تربط ماريا الوقائع والشخصيات والأحداث ببعضها وتخرج بصورة جميلة وأليفة للمزرعة والبيت والمحيط العام، فتقرر عدم بيعه. وهو القرار الذي يظهر في المشهد الختامي والجملة الختامية للفيلم، عندما تخرج من البيت باتجاه زوجها الذي ينتظرها في الحديقة لتقول له: “هذا البيت لم يعد للبيع”. جمالياً ينتمي هذا الفيلم بامتياز إلى ما يسمى بـ “السينما الشعرية”، تجلى ذلك في بلاغة الصورة السينمائية، والمشاهد الاستعادية المبنية على تأملات الشخصية الرئيسية في ماضيها وماضي عمتها، تلك التأملات التي تستثيرها عملية البحث في الأشياء والمقتنيات وغرف البيت وزواياه. كما تتجلى في علاقتها مع تلك الأشياء وكيف تستكشفها، تلمسها، وتقلّبها، وحتى تشمها، كما تتجلى في الحوارات القصيرة والهادئة، وغلبة لغة الصورة على لغة النص، وفي الجمل الموسيقية الهادئة والتي تعزف على آلة منفردة في أغلب الأحيان (الكمان أو البيانو). وتناغم كل ذلك مع عناصر الطبيعة التي تحيط بهذه المزرعة حيث الغابة الخضراء والجبل الكثيف الأشجار وشاطئ البحر الرحب. لكل هذه الجماليات، ولغيرها بالتأكيد، نال الفيلم، اثنتا عشرة جائزة، أهمها جائزة الكاميرا الذهبية لأول عمل روائي في مهرجان “كان” السينمائي، وجائزة غلاوبر روشا في مهرجان هافانا، وجائزة أفضل فيلم وأفضل سيناريو في مهرجان قرطاج، وأفضل فيلم في مهرجان شيكاغو.
بعد عشر سنوات على إخراجها “أوريانا” تتمكن فينا توريس من إخراج فليمها الروائي الطويل الثاني “الساعة الآلية السماوية Mécaniques célestes” (1995)، وهو اقتباس عن قصة سندريلا، ويوصف بالكوميديا الموسيقية. من إنتاج فرنسي- فنزويلي- اسباني- بلجيكي مشترك. ويحكي عن “آنا” (لعبتها أرياندا جيل) التي تترك حفل زفافها في العاصمة الفنزويلية كاراكاس لتطير إلى باريس كي تحقق حلمها في أن تصبح نجمة أوبرا. وهناك تقيم في شقة مع أربع فتيات من أمريكا الجنوبية وتعمل كعاملة تنظيف وعاملة في مخبز، في الوقت الذي تحافظ فيه على حلمها في أن تصبح مغنية أوبرا. تظهر في البداية وهي تغني للحظات في أحد الأفلام الغنائية. ومن ثم تقنع أحد أساتذة الصوت بأن تتعلم على يديه، وتحلم بأن تجري اختباراً لدى المخرج إيتالو ميديتشي الذي يجهز فريقاً للعمل في فيلم “سندريلا”. لكن هناك عقبات تعترض طريقها مثل الفتاة سيليستا التي تشاركها الشقة السكنية وتغار منها وترغمها على ترك الشقة، فتسكن مع طبيبة نفسية غريبة الأطوار.
وكذلك المرأة الشريرة المسماة “لابيراتا” التي تحلم بأن تلعب الدور في الفيلم وتحاول تخريب الفرصة على آنا. والشرطة الفرنسية التي تلاحقها لمخالفتها الإقامة فتضطر للزواج من أحد الشواذ كي تحصل على الإقامة… في النهاية هو فيلم عن مطاردة الحلم حتى تحقيقه، مهما كانت العوائق. أحد النقاد وجد أن عناصر من الواقعية السحرية قد تسللت إلى ثنايا الفيلم، مثل سيارت الأجرة التي تغّير ألوانها وهي تسير في الشوارع، والغيوم التي تجوب السماء على نحو سريالي. كما وجد أن بعض مشاهده مستلهمة من الفرنسي جان لوك غودار، بينما بعضها الآخر مستلهم من المخرج التشيلي أليخاندرو خودوروفسكي. ولو أن المخرج الاسباني بيدرو ألمودوفار هو من صنع هذا الفيلم لكان احتفيَ به كأفضل عمل له طوال سنوات[1]. لكن مع ذلك نال الفيلم جائزتين في مهرجانين دوليين.
بعد خمس سنوات على “الساعة الآلية السماوية” تخرج فينا توريس فيلمها التالي “إمرأة في الأعلى Woman on Top” (2000). وهذه المرة تستعين بنجمة عالمية مثل بينيلوب كروز، والتي تلعب دور امرأة من ولاية باهيا البرازيلية وتدعى إيزابيلا التي تجيد الطبخ وتعمل في مطعم لزوجها، يصبح بفضلها مطعماً مشهوراً وناجحاً. لكن إيزابيلا تعاني من دوار الحركة. مما يجعلها مضطرة لأن تقوم بتصرفات وعادات محددة ربما لا تروق لشركائها، منها مثلاً أنها مع زوجها يجب أن تكون دوماً في الأعلى (من هنا يأتي اسم الفيلم)، مما يتسبب بمشكلة مع الزوج فتتركه بعد مشاجرة لتغادر إلى سان فرنسيسكو حيث تعيش صديقتها مونيكا، وخلال مشاركتها في أحد دروس الطبخ يتعرف عليها منتج تلفزيوني ويعرض عليها تقديم برنامج تلفزيوني عن الطبخ، فتوافق، وسرعان ما يحقق هذا البرنامج بفضلها نسبة مشاهدة عالية وتصبح هي من أشهر الطباخين. في الوقت نفسه يبدأ المطعم الذي كانت تديره مع زوجها بالتراجع. فيسافر الزوج إلى سان فرنسيكو بحثاً عنها لاستعادتها، وعندما يجدها تعود المشاكل من جديد، وتعيش في حيرة بين العودة مع زوحها أو الاستمرار في البرنامج وعالم الشهرة. الفيلم كوميدي خيالي رومانسي، والكثير ممن كتبوا عنه وجدوا قصته مملة، وهو لم يلق الترحيب المأمول.
في عام 1985 تقوم المخرجة بزيارة كوبا، وتعجب بها، بناسها الطيبين وبطابعها المعماري الخاص، فتقرر عمل فيلم عنها، لكن هذا القرار لم يتحقق إلا بعد ربع قرن، عندما أنجزت الفيلم وأسمته “هافانا إيفا Habana Eva” (2010)، أو إيفا الهافانية. إنتاج فنزويلي كوبي فرنسي مشترك. تقول عنه في مقابلة تلفزيونية: “أنا أحب كوبا كثيراً. ومنذ أن زرت هافانا عام 1985 قررت أن أصور فيلماً هناك. وأعتقد أن كوبا هي من أجمل بلدان العالم. كاراكاس هي المدينة التي قضيت فيها طفولتي. لكنني بعدها لم أزرها. عندما زرت هافانا شعرت أنها هي مدينة طفولتي، أحسست أنها هي الجنة المفقودة. وقتها قلت أنه يجب علي أن أصور فيلماً هنا… أسميته هافانا إيفا، لأن هافانا هي شخصية في الفيلم وكذلك إيفا” يتحدث الفيلم عن الشابة إيفا التي تعمل في معمل للخياطة، وتحلم في أن تصبح مصممة أزياء، يتعرف عليها في الشارع مصور فنزويلي شاب من أصل كوبي أتى إلى كوبا كي يؤلف كتاباً عنها، لكن إيفا مرتبطة بشاب آخر وتنتظره إلى أن يكتمل تصنيع غرفة النوم حتى يتزوجان. لكن المصور الفنزويلي الذي يبدو عليه الثراء يعدها بمستقبل زاهر.
وهنا عليها أن تختار بين الاثنين. لكأن إيفا تمثل هنا بلدها كوبا الذي عليه أن يختار بين البقاء على ما هو عليه أو الانفتاح على الخارج. تتعمد المخرجة إظهار حالات البؤس التي يعيشها المجتمع الكوبي، والمتمثلة في تخلف هذا المجتمع. هذا التخلف الذي يتبدى في الكثير من مظاهر الحياة، من البيوت القديمة والمتداعية والتي لم ترمم منذ أن بنيت قبل عشرات السنين، إلى الأثاث القديم الذي تضمه هذه البيوت. إلى السيارات التي تعود موديلاتها إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي، وهنا تجري المخرجة مقارنة غير مباشرة بين السيارة الجديدة والفارهة التي يمتلكها الشاب الفنزويلي والسيارة القديمة والمتداعية التي يمتلكها عشيقها الكوبي. كما تظهر المخرجة في المقابل هذا المجتمع الذي يعيش تحت سطوة شعارات رنانة حماسية من قبيل “لن تستطيع أي قوة في العالم أن تكسرنا” الذي كتب على يافطة عملاقة في إحدى ساحات هافانا. كما تظهر المخرجة شوارع المدينة الخاوية والفاقدة للحياة والمثيرة للكآبة أحياناً. خصوصاً المشاهد التي صورت على كورنيش البحر في يوم شتوي عاصف، حيث أمواج البحر المرتفعة تضرب الرصيف. لكن في المقابل تظهر جماليات العمارة القديمة التي تزخر بها العاصمة هافانا. وتبين طيبة الشعب الكوبي وبساطته. نال “هافانا إيفا” جائزة أفضل فيلم في مهرجان نيويورك للسينما الأمريكية اللاتينية عام 2010.
مع نهاية العام الماضي (2013) كان مقرراً أن تنهي المخرجة فيلمها الجديد “ليز في أيلول Liz en Septiembre”، لكنه لم ينته بعد. وهي تقول عنه في مقطع مصور: “إنّه فيلم يصعب تعريفه، أعمل على السيناريو منذ سنة ونصف السنة دون توقف. إنّه سيناريو معقّد يحتوي على تراجيديا، ودراما، وكوميديا، موضوعه شاق وصعب، يعالج مسألة الصداقة والحب. كما يعالج موضوع اختلاف النوع والمرض والموت. إذن هو موضوع معقد وفي الوقت ذاته مسلٍّ، بالنسبة إلي هو فيلم يصعب تعريفه. سبع نساء في نزلٍ على شاطئ، تحدث معهم أشياء كثيرة. وعموماً يعالج صداقة متينة جدّاً بين سبع نساء، صداقة تحلّ محل الأسرة. ولكلّ واحدة من النساء السبع قصتها”[2]. الممثلة باتريثيا فيلاسكيز التي لعبت دور ليز تضيف: “إن ليز تبحث عن شيء في حياتها لكنّها لا تعرف ما هو. لكنّنا ننتبه لنكتشف في النهاية أن ما نبحث عنه جميعنا نحن البشر هو الحب، الحب غير المشروط”[3]. وهو، في الوقت نفسه، الموضوع الذي يتكرر في معظم أفلام فينا توريس، متخذاً أشكالاً ومسارات مختلفة ضمن سياق ما يمكن تسميته بالسينما النسوية.