لينا الوفائي
التقيتها في أوائل الثمانينات في القرن الماضي إذ كنتُ صديقة شقيقتها الكبرى، شابة مليئة بالحيوية. ولم اعرف حينها أنها كانت تنتمي لذات الحزب السياسي المعارض الذي ننتمي له أنا و زوجي، فقد كان حزباً سرياً, أعضاؤه لا يعرفون إلا من يلتقون بهم في مهمة حزبية ما ويجب ألا يعرفونهم اجتماعياً. لذا لم أكن اعرف أن تلك الشابة كانت تعمل مراسلة للحزب وتتنقل بين المحافظات وهي تحمل المنشورات السرية وأعداد الجريدة، فلم يكن وقتها هناك انترنت وكانت الطريقة الوحيدة لإيصال الصوت هو طباعته، حيث حمل شباب وصبايا الحزب تلك المطبوعات وتنقلوا فيها لتوزيعها، مطبوعات سرية كان يكفي معرفة النظام بها أن يقضي حاملها سنين طويلة في ظلمات السجن. وأكثر من قام بنقلها كانت الصبايا لسهولة مرورهن على الحواجز المنتشرة كثيراً وقتها. وهكذا تنقلت سميرة على الحواجز مبتسمة محاولة تمرير حملها الذي كانت تخبؤه تحت ملابسها مستغلة نحافتها ومرتدية ثيابا فضفاضة.
عدت والتقيتها عام 1987 في فرع فلسطين في المهجع 6، حيث كنا معتقلات ضمن حملة كبيرة شنت على حزبنا المعارض، وكانت سميرة صاحبة النكتة الحاضرة والمبتسمة دائما تنشر الضحكة حولها وتثير البهجة مخففة من بؤس الاعتقال. افترقنا بعد أشهر لأبقى أنا في الفرع طيلة سنوات سجني الثلاث وتُنقل هي الى سجن دوما لتمضي فترة سجنها التي امتدت إلى أربع سنوات.
بعد الافراج عنا التقينا مرة اخرى في مدينتنا المحببة حمص، كنا جيراناً وكانت سميرة اكبر داعم لي في تربية ابنتي وفي دعمي انا التي اواجه الحياة وحيدة وزوجي معتقل، مبتسمة وحنونة،لطيفة ومحبة، حاضرة دوما عند الحاجة.
لم تستطع سميرة متابعة دراستها بعد الإفراج عنها، حيث كانت تدرس الأدب الفرنسي، لكنها لم تستكن فتابعت دورات الكمبيوتر وبدأت العمل عليه كمنضدة للعديد من الكتب، ثم انتقلت إلى دمشق لإيجاد فرص عمل أفضل. وهناك التقت بزوجها ياسين حاج صالح وأحبته وتزوجته، متحدية مرة أخرى التفرقة الطائفية التي كانت تعيشها سوريا بشكل مستتر والتي كانت تجعل الزواج بين الطوائف صعبا وقليل الحدوث.
في دمشق وبعد انتقالي إليها لظروف خاصة بعمل زوجي بعد الإفراج عنه عدت والتقيتها كجارة مرة أخرى، لتعود إلي تلك الـ”سميرة” الداعمة والمحبة والودودة كعادتها. سميرة … تلك المرأة اللطيفة المحبة، التي تهتم بالآخرين، ابتداء من زوجها وأصدقائها وليس انتهاء بكل من يمكن أن تمد لهم يد المساعدة، دون أن تشعرهم بأنها تبذل جهداً من أجل ذلك أو تتكلفه، فقد كان من طبيعتها الأصيلة، ترتب وقتها ووقت البيت بما يناسب عمل زوجها، تهتم بالآخرين وبمشاكلهم دون شكوى أو ملل، وبالنسبة لي كانت داعماً في مواجهة ظروفي الصعبة من جديد (وفاة زوجي ومرضي)، مبتسمة دائماً وناشرة الأمل حولها.
انطلقت الثورة السورية في آذار 2011 , وشاركت فيها سميرة بكل ما تستطيع، حيث تظاهرت (مظاهرة المثقفين مثالا ) وشاركت بالتعزية في الشهداء، ونقلت مواد الإغاثة، خصوصاً الطبية. كانت سعيدة بثورة الشعب السوري و ترى فيها حلمها بتحقيق دولة الحرية والكرامة، واثقة بالغد وتسعى له. ولم يثنها ذلك عن دعم زوجها في عمله لأجل الثورة السورية. وحين تخفى زوجها وغادر المنزل لأنه أصبح مطلوباً من النظام السوري، بقيت سميرة في المنزل وحيدة، على ابتسامتها وهدوئها. لم تكن تظهر خوفها او قلقها مع احتمال تعرضها لمداهمة او اعتقال كان قائماً في كل لحظة، وعندما نخاف عليها نحن اصدقاؤها تبتسم بهدوء كعادتها وتطمئننا.
في عام 2013 أدرج اسمها في قائمة المطلوبين للنظام السوري، فلحقت زوجها إلى الغوطة وسكنت في دوما متابعة فيها نشاطها الثوري. كانت تشعر، كما عبرت دائماً، انها في بيتها وبين اهلها…وكانت صفحتها على الفيسبوك تسجيلاً يومياً لمعاناة المدنيين في الغوطة الشرقية نتيجة الحصار. في الغوطة المحاصرة أسست مع رزان زيتونة منظمة “النساء الآن” لدعم النساء ومساعدتهن في مواجهة ظروف الحصار. وشاركت أهل الغوطة الشرقية كل الأعمال المدنية اللازمة لمواجهة الحصار إذ تنتشر صورتها على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تقوم بأعمال تنظيف الشوارع مع صديقتها رزان.
غادر زوجها الغوطة الشرقية في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو بلدته الرقة،التي كانت قد تحررت من قبضة النظام، لكنها وقعت في يد داعش أثناء رحلته مما اضطره الى الاختفاء فيها ومغادرتها الى المنفى. بقيت سميرة في الغوطة تتابع رحلته بقلق ولكنها تطمئننا نحن في الرسائل عندما نسأل عنه وعنها. في فيلم (بلدنا الرهيب) الذي يوثق رحلة زوجها إلى الرقة ومنها إلى المنفى، والذي أخرجه كل من علي الاتاسي وزياد الحمصي، تظهر فيه سميرة مبتسمة كعادتها ولكنها شاحبة، انه شحوب الحصار… حصار الجوع الذي عاشته سميرة في الغوطة الشرقية.
في 9-12-2013 اختُطفت سميرة خليل مع رفاقها (رزان زيتونة ,وائل حمادة ,ناظم حمادي) من مكتب مركز توثيق الانتهاكات، والذي كانت تعمل فيه معهم، من قبل مجهولين ملثمين. نالت سميرة مع رفاقها اكثر من جائزة تقديراً لعملهم في التوثيق وللتضامن معهم في مواجهة خاطفيهم منها جائزة (بيترا كيلي الألمانية).
مضى عام تقريباً على اختطاف سميرة ورفاقها وما زالت مجهولة المصير، وما زال زهران علوش قائد الفصيل العسكري الذي يسيطر على الأرض في الغوطة الشرقية ينفي مسؤوليته عن هذا الاختطاف ومعرفته بملابسات الحادثة والمسؤول عنها، دون أن يقدم أي مساعدة تفيد بالبحث أو معرفة الخاطفين.
مضى عام وما زال اهل سميرة وأصدقاؤها وأحباؤها ينتظرون عودتها يومياً ولا يفقدون الأمل فيه فسميرة دائما كانت تبث الامل ولم تفقده يوماً.
انها امرأة أفخر إني عرفتها…
إنها سميرة خليل … امرأة حرة من بلدي … من سوريا
خاص “شبكة المرأة السورية”
2 Responses
رائعات انتن يا نساء سوريا، شكرا لينا على هذا الدفق الوجداني و هذا الوفاء، و الحرية لسميرة و رفاقها
نجن نفتخر بك وبها وبرزان ورفاقهما فلا نفرق بين ايقونات الثورة الحرية لجميع المعتقلين في سجون الاستبداد مهما تعددت اشكاله الحرية لسورية