جسد بلا روح
أثناء مغيب الشمس تسلّل النورُ من النافذةِ الوحيدة، وأضاءَ عقاربَ الساعةِ المتوقّفة.
بدتِ الغرفةُ في الغربة كصندوقِ العاملِ الذي يدسّ بداخله كلَّ ما يلزمه، فهناك سريرٌ وبجانبه خزانةُ ملابس، وفي أقصى الزاوية مغسلةٌ، ومن فوقها رُفُوفٌ ذاتُ واجهةٍ زجاجيّةٍ تعكسُ الأواني التي بداخلها.
على الجدار شاشةُ تلفازٍ تعرض أحداثَ العالم بصمت، وأمامها جلست سلوى على الكنبة بوجهٍ كالعاج لا حياةَ فيه.
أيّامُها متراكمة كالطحالب في بركةٍ راكدة، وفي صدرها حنين لشيءٍ مألوف لن يعود، والذكريات الكثيرة تؤجّج النار في قلبها.
آخر حدث تتذكّره في وطنها أنّها ضمّت ربطةَ الخبزِ إلى صدرها عندما سمعت صوتَ طائرةٍ تحوم فوق حيّهم، وبعدها صحت لتجد نفسَها مغطّاةً بالشاش والجبس فوق أحد الأسرّة، وحولها الأطبّاءُ والممرّضون يتحدّثون اللغة التركيّة.
أمّا الرجل الذي يكبرها بسنوات عديدة، والذي عُقِدَ قرانُها عليه في سوريا عبر الهاتف، كان يزورها من وقت لآخر.
المرضى الذين تعاقبوا على السرير المجاور لها، قد أشبعت نظراتُهم الحزينة شعورَها بالألم والوحدة، فباتت أحوج ما تكون إلى من يربّت على كتفها أو يقدّم لها ولو قطرةَ ماء، لذلك بعد أن تماثل جسدُها للشفاء وصحبها خطيبُها إلى البيت لإتمام زواجه به، لم تعارضه!
أيقظها من شرودها رنين الجرس فانتفضت مسرعةً نحو الباب لاستقبال زوجِها، وضعت حذاءه في الخزانة ونزعت جوربه وهو يغرس سهامه المسمومة في قلبها عبر كلماته :
– (وجهك نحس عليّ، صاحب الشغل طردني لأنّني اختلفت مع أحد العمّال وضربته …
اعملي لي فنجان قهوة لأروّق ولا تنسي تحطّي لي فيه ملعقة سكّر.. بعرفك غبيّة وما بتفهمي وإذا ما ذكّرتك فيها كلّ مرّة بدّك تنسي.)
دفعها بقدمه فوقعت مع كرامتها أرضاً، نهضت بتثاقل وألم وبعدها وضعت دلّة القهوة على النار ووقفت تراقب الماء وهو يغلي.
كانت دموعها تسيل من عينيها بغزارة لتصل إلى ذقنها وهي تفكّر إن كانت قد نجت أم دُفنت مع عائلتها تحت الأنقاض!
مع تصاعد بخار الماء من الدلّة، توقّفت دموعها عن السقوط، وتوسّعت حدقتا عينيها، وهي تتذكّر كلماتِ زوجها التي أدمت قلبها:
– (ما في داعي تتعالجي مشان الخلفة لأنّي بعد ما حلّلت تأكّدت إنّك عقيم، وما بتجيبي ولاد ..خلاص، انتهينا من هالموضوع، وما بقى تنقّي عليّ !)
استحوذت عليها فكرة أن يكون هو العقيم ؟!
فكيف لرجل فظّ ولئيم مثله، متلهّفاً للأولاد أكثر منها أن يطوي هذا الموضوع بتلك الصورة ؟!
والطبيبة أكّدت بأنّها لا تعاني من أيّة مشكلة تعيق إنجابها، فلِمَ مزّق تحاليله فقط إذا كانت هي العقيم على حدّ زعمه ؟!
العقد الثاني من عمرها اكتمل اليوم دون شموع، فأدركت لتوّها أنّها لا تستحقّ هذا العمر الباهت، ولا تلك المعاملة المشبعة بالإهانات، وبات الظلام داخلها يبحث عن بدر يبدّده، والأحلام المكلومة تفتّش عن أملٍ لتزهر.
فقرّرت إحراقَ الخيوطِ التي تربطها به، وعندما اشتمّت رائحة شياط الدلّة، أطفأتِ النارَ ثم التفتت نحوه وهي تقول بحدّة:
– ( بكرهك وما عدت قادرة أتحمّل العيشة معك ….طلّقني ..)
فتحت باب الشقّة وغادرت مع روحها المكان!
آمال شيخ دبس
شبكة المرأة السورية