Search
Close this search box.

إذا كنت تريد غزو العالم كله فاقهر نفسك

إذا كنت تريد غزو العالم كله فاقهر نفسك

آمال شيخ دبس
أحلام ورديّة كثيرة راودتني وأنا نائمة فوق الكنبة في غرفة الجلوس، كنت أُزفّ فيها إلى خطيبي حسام كما تزفّ العرائس في وطني بين حشود المعازيم والحضور، بعد أن رقصنا طويلاً حملني بين ذراعيه وبدأ يدور بي ..دار طويلأً وأنا ممسكة بعنقه أشتمّ عطره الأخّاذ إلى أن أعياه الدوار فأوقعني أرضاً، فتحت عينيّ لأجده قد وقع بقربي من كنبته أيضاً ولم نكن في الحلم ..إنّه زلزال عنيف سرق الكرى وأيقظنا بصورة عنيفة وانقلبت كنبتي بقربي أثناء تعلّقي به وأنا أنادي على والدتي التي تنام في الغرفة الثانية. صوتي امتزج بأصوات تحطّم الزجاج وارتطام كل الأثاث بالأرض، كانت هي أيضاً تنادي علينا كما علمت منها لاحقاً ولكن لم نسمعها ..بدا اجتياز المسافة بيننا مجهداً ومربكاً، فالكهرباء انقطعت مباشرة مع الزلزال. وصلت أخيراً والرعب واضح من ارتجاف يديها وهي تتلمّسني وحسام للاطمئنان علينا..
كانت الساعة الرابعة وسبع عشرة دقيقة في يوم السادس من شباط من عام 2023، الله أكبر ..الله أكبر ، وكرّرنا بعد التكبير الشهادة إلى أن هدأت الأرض قليلاً فأسرعنا لمغادرة البيت، تلمّسنا طريقنا على نور هواتفنا المحمولة متجنّبين المشي فوق قطع الزجاج المبعثرة أرضاً ..خزانة الأحذية وعلّاقة الثياب أفرغتا حملهما ممّا سهّل علينا اختيار أحذيتنا والتقاط غطائَيْ شعرٍ لي ولوالدتي.
سكّان المبنى مثلنا يسارعون في نزول الدرج ببيجامات النوم وعلى أنوار هواتفهم المحمولة …البعض حفاة والأطفال يبكون، واللغة التركيّة اختلطت باللغة العربية والغالبيّة تهتف الله أكبر .
المطر يهطل بغزارة والبرد قارس يتلاعب بالأبدان فيرقصها والهزّات الإرتداديّة تخلع قلوب الحشود من الصدور.
وصلنا أنا ووالدتي هاتاي منذ أسبوع لاستكمال مراسم زواجي، قضينا الوقت في تنظيف البيت وترتيبه واختيار أثاثه، في السادسة مساء وصلت غرفة نومي فأجّلنا مدّ جهازي إلى اليوم، وهاهو الزلزال يحطّم كلّ مخطّطاتنا .
ألأنّي سوريّة لاتجد السعادة طريقها إلي؟
أبي اعتقل وعُذّب حتى الموت ففقدت سندي وأنا بأمسّ الحاجة إليه، وأخي نجا من الإعتقال بأعجوبة فهاجر إلى ألمانيا بعيداً عن أيدي الظالمين والحاقدين والمنتقمين، عقدنا قراننا أنا وابن عمّي في سوريا وصحبنا والدتي إلى تركيّا للاستقرار فيها، هو أقام في هاتاي حيث مركز المنظّمة التي يعمل فيها، ونحن استأجرنا منزلاً في بايبورت حيث الجامعة التي أكمل دراستي فيها .

تلك الذكريات الشاقّة على نفسي والتي طعنت قلبي بقي جرحها نازفاً إلى يومي هذا، فعندما قرّرنا استكمال زواجنا في تركيّا بدون احتفال لعدم وجود أقرباء أو معارف لم نتوقّع أن تغرق الصدمات أبسط أمانينا، ونغرق بالأمطار في هذا الوقت ويعود النزف لجرحي.
على بعد أمتار من مبنانا، كانت امرأة تستنجد من شرفة منزلها وهي ممسكة بيد طفلها، لم نستطع تمييز الطابق الذي كانت فيه بعد أن انضغطت الطوابق بعضها فوق بعض وتهدّم درج المبنى وأغلق الباب بالحجارة، سارع بعض الرجال لامساك البطانيّات وحثّها على القفز ، رمت بطفلها ثم قفزت بعده .
وخلفنا مبنى تحوّل كل طابق فيه إلى غرفة كبيرة ..
والدتي بقربي تتمتم بآيات ودعوات وهي ترتجف خوفاً وبرداً، وحشود البشر حولنا فزعة من شبح الموت الذي يحيط بنا في كلّ مكان ومع كل هزّة ارتداديّة نشعر بها .
تنتابني رغبة في الصراخ لتبديد الضجيج الذي يحيط بي، أرغب في الجلوس على الأرض ووضع رأسي بين يدي والبكاء بصوت مرتفع، بصوت يخترق اللاوعي عندي وينقلني إلى عالم آخر فيه سكون وهدوء .
كنت جامدة بدون دموع أحاول تهدئة والدتي واثبات قوّتي لزوجي ..
بدا العالم غريباً وكأنّه يشارك بتمثيل فيلم مرعب، لكن الفيلم استمرّ طويلاً، ولم يعد أحد يشعر برغبة في البكاء بعد أن تحجّرت الدموع في المآقي.
طال الوقت بنا وماركت البيم متاح بعد أن تهدّمت واجهته وقد سارع الناس لأخذ المياه والبسكويت وبعض الإحتياجات الضروريّة منه..
تجرّأتُ وحسام على الصعود للمنزل لتغييير ملابسنا المبتلّة وجلب بعض البطّانيّات مع أوراقنا الرسميّة، وبعد النزول مشينا مع النّاس باتّجاه الملعب لتتكشّف لنا ونحن في طريقنا إليه هول الكارثة التي أصابت هاتاي، فمجمّع الثمان مباني منهار بالكامل، وأصوات العالقين تحت الأنقاض تمسّ الروح قبل الأذن وقصص الفقد تدمي القلب قبل العين، والدمار قي كل زاوية، إنه زلزال الموت !
أيقنت وقتها بأن نجاتنا كانت حدثاً مميّزاً ولو حمدنا الله مع كلّ نفس ماوفّيناه حقّه.
وصلنا الملعب، هو أشبه بساحة معتقلين، الأطفال يبكون والكبار تهتف الله أكبر مع كلّ هزّة تباغتنا، لا كهرباء ولا ماء والرائحة الكريهة تنبعث من الحمّام الوحيد المتاح للجميع.
اتّصل حسام بصديقه ليقلّنا بسيّارته، وقد وصل الأخير قرابة المغرب بعد أن ساعد الفريق المحلّي بانقاذ الكثيرين ممّن علقوا تحت الأنقاض .

صعدنا السيّارة باتّجاه الطريق العام، كانت الشوارع بلا هويّة وقد تشوّهت ملامحها بالكامل، خراب في كل مكان وتجمّعات كثيرة منتشرة، رائحة الموت والفقد تنبعث من الهواء المشبع بالغبار والأتربة .
وصلنا الطريق العام فركن سيّارته جانباً وكانت بقيّة السيّارات على مدّ النظر مثقلة بأحمالها فهذه المرّة كلّ راكب يحمل آلاماً وفواجعَ وصدماتٍ وخيبات بثقل العالم كلّه.
قضينا ليلة لايعلم بها إلّا الله، فقد استمرّت الهزّات الإرتداديّة ومع كل هزّة كان الأدرينالين ينشط في دمائنا.
في الصباح مررنا بالبيت لأخذ بعض الملابس، انتظرتنا والدتي أسفل المبنى، فرجلاها لم تعد تحملها من الخوف والوهن والإرهاق ولأنّها امتنعت عن الأكل والشرب كيلا تضطرّ للذهاب إلى الحمّام فقد تعب جسدها أيضاً من العطش والجوع، انتظرتنا مع دعواتها لنا بالسلامة، وما إن عدنا حتّى تابعنا طريقنا إلى الكاراج ولحسن حظّنا وجدنا باصاً متّجهاً إلى مدينة أضنة، تلك المدينة التي كنّا نصلها بساعتين ونصف وصلناها بعد سبع ساعات، كيف لا والخروج من مدينة انطاكيا وحده استغرق الساعتين بسبب الدمار والخراب والإزدحام.
في كاراج أضنة كانت معظم الباصات متّجهة إلى أنقرة وانطاكية ومرسين وهناك باص متّجه إلى أورزروم بعد

أربع وعشرين ساعة، الإنتظار في الكاراج كان مستحيلاً فهو مكتظّ بالمسافرين وكراسيه مفروشة بالناس كالأرض.
بحث حسام في النت عن فندق قريب، وبعد عشر دقائق كنّا داخل إحدى غرفه نستحمّ لنغسل تعب الصدمات التي مرّت علينا ونخلد إلى النوم.
تناولنا فطورنا في الصباح الباكر وعدنا إلى الكاراج، حجزنا إلى مدينة أورزروم وهناك وبعد وصولنا انتظرنا طويلاً إلى أن وجدنا سيّارة تقلّنا إلى مدينة بايبورت، وصلنا بيتنا قرابة ظهر اليوم التالي .
والدتي مصابة إلى الآن بكآبة وحزن وتوتّر وعصبيّة مفرطة وشرودها لايفارقها فتواتر قصص الفقد التي وصلتها أدمت قلبها، كلّهم من أقرباء أصدقائها أو أقرباء معارفنا ..
خمسون فرداً من نفس العائلة انهار المبنى بهم، واستشهدوا جميعاً بسبب الزلزال، وأحد عشر شخصاً توفّوا في مبنى ثان وسبعة في آخر و….
حسام رجل عملي وعقلاني وقلبه كبير، يمارس عمله الحالي عن بعد عن طريق اللابتوب، هادىءورصين يحتملني وأمّي برحابة صدر ودون تذمّر مقدّراً الحالة النفسيّة التي نحن عليها.
ولأنّ كلّ حكاية حينما تنتهي يزيد الإحساس بها، قضيت الليال وأنا أجهش بالبكاء من هول مامرّ بنا

ومارأيناه وسمعناه..
بكيت حزناً وكمداً على حظّي بعد فقداني لعشّ الزوجيّة..
بكيت أحلامي كلّها، فكلّ العرائس يحتفلن بمدّ الجهاز أو الحنّة والعرس، ويحتفل الأصدقاء والأقرباء والمعارف بهنّ إلّا أنا لم أستطع الإحتفال بنفسي!
طبعاً يظنّ الإنسان الغارق في معاناته الخاصّة أنّه الوحيد الذي يتجرّع الآلام والأحزان والمعاناة، وهكذا كنت إلى أن وصلتني أخبار قريبة جارتنا التي بُترت ساقها بعد الزلزال وفقدت زوجها وولديها، ومع ذلك تناضل لتعيش عرفت عندها لم كتب دوستويفسكي:
(إذا كنت تريد غزو العالم كلّه، فاقهر نفسك)
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »