غازي عنتاب – هبة غازي
نوبة شتاء وثلوج وما زالت الحياة مستمرة وما زال الأمل موجودا رغم كل الألم والحياة القاسية نقف نتأمل هذا المنظر الرائع، فلتغمض عينيك وتسترجع شريط ذكرياتك ولو للحظات بسيطة، ففصل الشتاء يُشعرك بالحنين إلى كل شيء، إلى طفولتك وسنوات عمرك التي سُرقت إلى قلوب افتقدتها وأحاسيس نسيتها.
في صباح يوم الأحد في الخامس من شهر شباط جلست الطفلة “سورية” ذات الثماني سنوات على النافذة تراقب الثلج بعيون فرحة
ماما هل تسمحين لي بالخروج إلى الشارع واللعب بالثلج مع أولاد جارتنا راما وسعيد؟ أرجوك يا أمي.
عائدة: حسنا يا حلوتي اخرجي وامرحي قليلا ريثما يجهز الحساء.
تنظر عائدة من النافذة مراقبة ابنتها سورية وهي تلعب وتركض وتضحك كأنها تملك الدنيا بأسرها، صغيرتي التي مات والدها في الحرب منذ ثماني سنوات ونزحت إلى الشمال السوري جنديرس في ريف عفرين حلوتي التي فتحت عينيها على اليتم والفقر والحرمان التي لا أملك لها إلا الضحكات لأجعلها سعيدة، أعمل ضمن المنزل في خياطة الملابس لأهل الحارة وبعض المعارف والأصدقاء، أصلح ما تمزق من الثياب، وأرقع البناطيل لأولاد الحارة بأسعار زهيدة لأسدّ رمقي وأبعد الفقر عني وعن ابنتي.
إنه يوم الأحد موعد تسليم الفستان الأخضر لجارتي هيفاء، لكي ترتديه غدا في عرس ابنة عمها، إنه فستان جميل قماشه حريري لامع لم يكن يحتاج إلى كثير من الإضافات أو الزينة، فقط وردة فضية وضعتها على الخصر.
فتحت عائدة باب المنزل ليتسلل الهواء البارد إلى الداخل مسرعا ليختلط بدفء المنزل الذي تتقد فيه مدفأة الحطب منذ الصباح الباكر لتدخل هيفاء ومعها سورية
هيفاء: انتهى وقت اللعب أليس كذلك يا عائدة؟ انظري إلى سورية احمرّت يداها وأنفها من البرد، لقد أصبح أنفها بلون قبعتها الحمراء
عائدة: طبعا ادخلي لتجربي الفستان وأنت يا حلوة إلى جانب المدفأة بسرعة
سلمت يداك يا عائدة. إنه رائع
وأخذت هيفاء تدور وتدور بفستانها الأخضر وكأنها أميرة هاربة من قصص الأحلام.
هيفاء: سأكون الأجمل في الحفلة غدا عليّ أن ألفت انتباه جارتنا أم عبد الله وتخطبني لابنها أبو عيون زرق
عائدة تبتسم وتقول إن شاء الله نفرح بكِ عن قريب
ولكن هناك قطعة قماش صغيرة زائدة متبقية سأضعها في الكيس مع الفستان
هيفاء: لا شغل لي بها ابقيها عندك
سورية: أمي أرجوك اصنعي لي بها فستانا أخضر ألبسه في العيد
عائدة: ولكن قطعة القماش صغيرة. سأحاول أن أصنع منها كنزة خضراء رائعة لجميلتي سورية ولكن أولا عليك أن تنهي تناول صحن الحساء
دخلت عائدة إلى الغرفة لتبدأ بالقص والحياكة بسرعة فهي متشوقة لترسم الفرح على وجه سورية، فالأخضر لون يليق بها.
انتهت خياطة الكنزة أخيرا فتسرع سورية بارتدائها وينعكس اللون الأخضر للكنزة على لون عينيها العسليتين ووجهها الأبيض لتبدو كزنبقة صغيرة تفتحت في بداية الربيع
سورية: أرجوك يا أمي، دعيني أنام بها. إنها جميلة جدا لا أريد أن أتركها،
وغدا سأضعها في الخزانة لأرتديها في العيد، أرجوك.
لم تستطع عائدة أن ترفض طلب سورية فهي تقف عاجزة في كل مرة تطلب منها سورية طلبا ما، أما الليلة فستدعها تنام مرتدية كنزتها الخضراء، فسعادتها الليلة تساوي كل العالم.
لكن في صباح الاثنين في السادس من شهر شباط لم تستيقظ سورية بل ومعظم أهل الحي لم يستيقظوا أيضا ولم يأت العيد، بل أتى زلزال لم يُبق ولم يذر، لتدفن سورية غريبة في مماتها كما كانت في الحياة، كأنها ختمت لنا حكاية شعب اغترب حتى في قبره،
ليُكتب على شاهد القبرمجهولة الهوية طفلة ترتدي كنزة خضراء
وضاع اسمها في زحمة الأسماء.
بلاد القهر أوطاني وموت دون أكفانِ.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”