Search
Close this search box.

عُمرٌ وأغنية

عُمرٌ وأغنية

أحلام أبو عساف

وَضَعَتْ سمّاعة الهاتف في مكانها من غير ضجيج، اصطنعت الهدوء، شيء ما جعل جسدها يرتعش، أجبرها أن ترتمي بجسدها المتهالك على أقرب كرسيّ. كان صوته هذه الليلة نديّاً رقراقاً، ملأ تجاويف عمرها هدوءاً وأشبعها حياة. تهدّجت أنفاسها وقد خجلت من نفسها، فأغمضت عينيها بعد أن أسندت رأسها بيديها، راحت في ذاكرتها للبعيد. مُنذ متى التقت برجل؟ حاولت أن تستدرك مزايا ذلك الذي كان فيما مضى رَجُلَها، كانت تكره هذه الألفاظ … رَجُلَها، أنثاه. ولكنها تلعثمت الآن وهي تلفظ ذلك. استجمعت كل ما جال بذاكرتها في هذه الساعة عنه، لم تفلح، كل ما تذكّرته أنها كانت تسرق فرحة قلبها من آخر في خيالها، كانت تشتهي الخيانة. كُثر كنّ مثلها. بعضهنّ تجرّأن على شقّ حجب الفضيلة، مضى زمنٌ على ذلك.

في هذا المساء المتأخر، شعرت أنها انطفأت فجأة، وانسدل ستار كثيف، أحاط بكل جوانب عمرها، أصبح كجدار إسمنتي. لم تعد ترى من خلاله ما مضى من هذا العمر البائس، لقد ضاع في دهاليز النسيان بكل مجرياته الكبيرة والصغيرة، غابت جميع التفاصيل عن ذاكرتها الرمادية، تمتمت: “ماذا أصابني؟”

 ذابت سنوات زواجها الخمسة والعشرون، والتي قضتها كآلة لم تعرف فيها عاطفة. حرّكت يدها اليسرى أمام وجهها وكأنها تطرد شبح السنين، كابرت، عساها تلتقط أيّة ومضة من ماضيها. ولكن عبثاً، كان أبو جابر صديقها الذي تعرّفت عليه في إحدى المنتزهات القريبة من منزلها، والذي أخذها الحديث معه، وتعارفا في نهاية المطاف قال لها: عفواً سيدتي- قالها بلطف جمّ-  سأثقل عليك، فهل لي برقم هاتفك؟ .. لم تثقل على نفسها بالتفكير، أعطته الرقم،  صار  بعينيه اللتين تشبهان عين الصقر مترصّدا لآهاتها، مدافعاً عن حاضرهما، مزمجراً وكأن في يده سيفاً بألوان قوس قزح، يهشّ فيه تلك الذاكرة، فكان وقع لهيبه على ردفيها نغم. يمنعها من العودة إلى سنوات عمرها الستين. وهو يقول بصوت متهدّج  اقترب من السبعين  من سنوات عمره: “ما في رجوع لورا افهمي يا عفاف”… أحبّت هذا الصوت تغلغل بصدقه عميقاً وامتزج بخلايا جسدها، الذي ما زالت تحافظ على رشاقته بكل قوة،  لا شيء أجمل من أن يكون الرجل صادقاً حتى بكرهه، أبو جابر يصون رجولته وجمال حديثه، كان صادقاً حتى بلهفته التي يحاول أن يخفيها، كلما شاهدها أو اتصل يسأل عن حالها وأحوالها ولا ينسى أن يُذيّل حديثه عن مجريات يومه. تساءلت أهو الحبّ، أهو الاختلاف؟

 تابعت إيقاظ هواجسها. نعم لم تسعفها ذاكرتها في استحضار من مرّ على جسدها. صحيح كانوا قلّة، ولكنهم كانوا أبعد من أن يلتصق أحد منهم بجدران تلك الذاكرة، ومنهم زوجها المتوفى أبو أولادها. في كل مرّة  يتراءى خيال أبو جابر ونبرته الحانية” “أنا ذاكرتك”، يهمس، فيدغدغ قلبها الذي عاد فتياً. ويقتحم رتابة شيخوختها المقبلة. كان يتداخل مع صوت صديقتها التي تشرح لها الخلل الذي سيصيب الغلاف الجوي من عاطفة متأخرة. تقصّ لها مخيلتها ما يجول في أذهان البشر مثلنا، ما إن استمرّت في غيّها وقلبت موازين المحبة، تعدد لها مضار الإشاعات، التي ستلحق بها نتيجة هذا الإعجاب؛ والذي يسمى حبّاً. اعقلي يا عفاف، تقول ناصحة، وأنت  في أرذل العمر، أرملة ، وحيدة. ستلوكك الألسن وتطال سٕمعتك في الحي.

يا للهول!  تردّ عفاف هازئة كعادتها عندما يتطلّب أن تكون جديّة:   ماذا لو كنتُ رجلا؟  ألا يتسابق أهل الحي لتزويجي وأنا في أرذل العمر؟ مطّت صديقتها شفتها السفلى. وقالت :”الله يسترنا من الخوث”.

 أصبحت لا تعنيها اختراقات الغلاف الجويّ ولا تلويثه بأقاويل من هنا وهناك، فلا خسارة مع الطبيعة، أليس من معجزات هذه الطبيعة أن يكون الصوت جسراً بين حياتين؟ عادت القهقرى للخلف، حاولت أن تعيش  ما ضاع من مراهقتها وهي بين الكتب. كان يرمّز الشهقات، يرمز زفراته وكانت تصلها فرحاً واطمئناناً.

 قرأت مرة في إحدى المجلّات أنه الحب ولا شيء غيره. فاستكانت للأمر وهي التي لم تؤمن برجل، أصبح هو إيمانها، وأعلن أنها كعبته، شاهدت ذلك اليقين في حجيجه إليها والطواف حولها. ماذا طرأ على رتم  نبضات قلبها، التي قال عنها الطبيب في آخر زيارة متباطئة  قليلاً. ماذا أصابك يا عفاف؟ تردد  بخجل وهي تشعر أن قلبها سيخرج من صدرها هذه اللحظة.

 وضعت السماعة وأبقت على كلماته العالقة في كيانها. ناجته: “أنا روحي فيك”. حاولت أن تمشي في أرجاء البيت الذي تسكنه وحيدة. فهجرة الأبناء وتركهم لوالديهم، أصبحت مألوفة في مجتمعنا، وولداها لم يكونا خارج هذه المنظومة المعقدة، التي تلفّ الشعب السوري على إثر حرب ضروس التهمت النفوس قبل الحجر. عادت تنفض رأسها  وكأنها تطرد مراهقة مُستجدّة، متجنّبة الهزّ العنيف لرقبتها فتوقظ أوجاعاً نائمة، ثم قالت: “ما علينا الله يسهلهن”.

عاد طيف أبو جابر يقترب منها، ابتسمت له،  رجل بأحلام متجدّدة رغم  هجرة أولاده، ووفاة زوجته المتأخر, والذي يربك أي رجل في عمره. ولكنّه بقي متماسكاً أمام صفعات الزمن، هذا ما تظنه دعوة للإعجاب المباغت فيه، وليكن هذا تسرّعاّ قالت بخفوت. نسيت أن تتناول دواء الضغط، اختفت جميع آلامها، ومن غير شعور، نبشت بقايا من مكياج قد نفدت مدة استخدامه، بقايا قلم من الكحل اشترته قبل تقاعدها الوظيفي بزمن، ومعه قلم حُمرة مائل للبرتقالي. مسكرة وجدتها متجمّدة، صبّت فيها القليل من الماء الساخن ورجّتها. ثم  قليلاً من كريم مطرّي  ينتظرها في كعب عصّارة. وضعت منه على بشرتها لأول مرة وجدتها ناعمة الملمس كبشرة طفلة. لم ترَ نفسها بهذا الجمال في مرآتها من قبل.ثم … فتحت خزانتها وتناولت شالها الأصفر المنسي بين ملابسها، وضعته على وركها المتيبس والذي أحسّته ليناً كعود الخيزران، أدارت أغنية أم كلثوم “أنت عمري” كان القمر ليلتها كرغيف خبز مقمّر يملأ الكون  فرحاً وضياء. وهاتف أرضيّ عاد يرن في زاوية الصالون… حينما بدأت بالرقص، غابت  وعمرها عن الوجود. 

اللوحة للفنانة “شلبية ابراهيم”

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »