Search
Close this search box.

                 درب التّبان

                 درب التّبان

منتهى  شريف

أصوات أقدامهم تقترب… لحظات ويدخلون جميعهم من الباب الحجري!

  أمها تحمل الكفن وتولول بصوت مخنوق: “يا ويلك شو عملتي بحالك وفينا؟” أخاها الأكبر الذي تحول لثور هائج بدأ بحفر قبرٍ لها في زاوية التبَّان، وبينما تنهال اللعنات من فمِ أخيها الأصغر، تبذل جهدها لالتقاط عينيه وهو يقترب ليضغط على فمها بعُصابة قماشية ليمنعها من الصراخ، تهز رأسها رافضة العُصابة، تستنجد بعينيه العسليتين ليسمح لها بجملة أخيرة: “لا داعي لتكميم فمي، لن أصرخ، لم الصراخ أصلاً؟ لماذا سأنهك أنفاسي الأخيرة بطلب النجدة من الناس خارج التبان وكلهم ظالمون مثلكم؟”

تريد فقط أن تنظر في عينيه، أن تذكره كيف كانت تضعه في حضنها صغيراً وتغني له كي ينام، أخوها “أبو عيون عسلية”  ظالم لدرجة أن يبخل عليها بنظرة أخيرة، تفتح عينيها على وسعيهما كي يلتقط نظرتها، لكنه عوضاً عن ذلك يشيح بنظره، ويدير ظهره لها، ليعود وفي يديه حجراً أسود مدبباً يهوي به على رأسها!

كانت غارقة في عرقها عندما استيقظت، تلمست رأسها وفمها المحرر من العُصابة القماشية: “كابوس … مجرد كابوس!”

أصبح هذا الكابوس يطاردها منذ أن تعرفت على زميل لها وشبكت أصابعها بأصابعه، ثم تركها مرمية على مفترق طرق، من هنا؟ من هناك؟ كل الطرق ستفضي إلى باب التبان الحجري.

لم يكن لديها يوماً ركناً خاصاً في بيتهم في القرية النائية التي هجروها مرغمين، كثيرا ما تخيلت ورسمت في أحلامها سريراً لها وحدها، ودرفة في خزانة خاصة لثيابها وبجانبها مرآة لتراقب فيها أنوثتها، لكن حلمها هذا أصبح صعب التحقق بعد موت والدها، فقد أصبحت البنت الضيفة المتنقلة مع أمها وأخيها الأصغر بين بيوت أخوتها المتزوجين، يتنقلون حسب الحاجة للمساعدة غالباً أو وفق اتفاقية شفوية بين الأخوة الذكور المحظوظين بكونهم اشتروا منازل في مدينة آمنة.

كان سطح التبان في صغرها ملعباً لأخوتها وأبناء عمومتها ومسرحاً لخيالها، كانت تجمع الحجارة طوال النهار وترصفها فوق بعضها لتشكل ركنا خاصاً بها، منزلاً تزينه بالورود البرية تنوي أن تدعو إليه قريناتها، وما أن تنتهي منه حتى يحطمه الصبية بصخب هائل، أكثر ما يحزّ في نفسها الآن هو ضحكات الكبار وتهليلهم لقوة أبنائهم وقدرتهم على قذف الحجارة المرصوفة بجهدها خلال يوم كامل، يميلون مثل لاعبي كرة القدم ليقذفوا بأحلامها في مسابقة ذكورية كلهم فائزون بها وهي الخاسرة الوحيدة.

فكرت كثيراً بان تبني ركنها الخاص داخل التبان، لكن خيالات الطفلة عن المكان المجهول المظلم الذي ستجتازه لتدخل بعدها إلى بلاد العجائب مثل أليس كانت قد قطعتها صورة مشوشة بقي منها فقط شعورها بالرعب؛ أعمامها يدخلون التبان جارين عمتها وهم يصرخون ويطلقون لعناتهم، لم تفهم ما الذي حصل وأين اختفت العمّة، غاب حلم بلاد العجائب وبدأت تتشكل كلما ابتعدت عن طفولتها صورة مظلمة قاتمة لمصير عمتها المجهول.

في تلك الليلة وقبل عشرين عاماً رأت كل شيء، لم يعلموا انها كانت تختلس النظر، عمتها الشابة كانت ممددة بين أكوام الحصى وبقايا التبن القديم. صوتها المكبوت خلف العصابة القماشية كان يئن كصوت فأر عالقٍ في مصيدة.

لم تعلم لماذا رموا العمّة هناك، لكنها تعلم أن شجرة كبيرة من الخوف انغرست في قلبها الصغير حينها وبدأت تكبر وتكبر لتكمم فمها وتحولها لكائن معاق غير قادرة على المضي مع الآخرين، وغير قادر على السير بمفرده، لكن شيئا ًما حصل، هل تحققت نبوءة النساء في القرية حين همسن لأمها ناصحات بأن لا ترسلها للجامعة، سمعتهن يقلن: “خذوا البنات من صدور العمات… ديري بالك ليصير فيها متل ما صار بعمتها…!”

هي الآن على مفترق طريقين؛ أن تسير في طريق مع الغريب إلى حيث ينتظرها حضن عمتها المدفونة في زاوية التبان، أو أن تدفن كل أحلامها خلف شجرة الخوف. 

تقف على مفترق طريقين وإلى جانبها حقيبة فيها كل أشياءها التي جمعتها في حياة كاملة، يتراكض الناس حولها هاربين من المطر الذي انهمر كشلال دون سابق انذار:

   لكن كيف للهاربين من المطر أن يفهموها؟

تذكرت وجوههم هذا الصباح، عرفت من عيون والدتها التي ودَّعتها بأنها تعلم بأمر الغريب، ومن نظرات أخيها لحقيبتها الكبيرة، بأنه يعلم ويكذِّب مخاوفه.

هم اختاروا في المدينة البعيدة أن لا يتتبعوا عقوبة التبان، عقوبتهم هي التجاهل، اعتبار أنها ماتت، هاجرت، غرقت في البحر مثل الكثيرين. لكن ما لا يعرفونه أن تجاهل وجودها، اعتبارها ميتة، حرمانها من الاقتراب منهم سيكون أشد وأقسى عليها من الموت. 

جلست في كرسي الحافلة وراحت تراقب المطر المنهمر وتنظر للناس الهاربين منه وتفكر بالرسالة التي تركتها لهم هناك:

إلى أمي وأخوتي:

_ أنا المذنبة حد القهر، أنا الهاربة من صحراء لا مطر فيها، أنا المخطئة لأني لم أشارك الصبية قذف حجارات منزلي الصغير ككرات، ولم أشارككم السخرية من هدرهم لجهدي، أنا المذنبة المتلصصة على انتقامكم لشرفكم المهدور، أنا الشاهدة والشهيدة، أنا المعاقة بشجرة خوفي منكم، أنا التي تحمل كل أشيائها التافهة في حقيبة واحدة، أنا المنذورة لصدر عمتي ولمصيرها ولغيابها.

أنا الهامشية الحالمة بمفاجئات بلاد العجائب … أعتذر منكم.

 

اللوحة للفنان “نذير نبعة”

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »