Search
Close this search box.

أنا هون … لا تنسوني

أنا هون … لا تنسوني

منتهى شريف

المكان المُزدحم بالمراجعين والممر الطويل الذي يُفضي إلى الغرف الكثيرة المتشابهة، جعلت نجود تشعر بالدوار. تَوقفَتْ لتلتقط أنفاسها والعرق يتصبب منها، فالمكتب الذي طلبوا منها أن تعود إليه كان في أعلى طابق من المبنى، وهي كانت قد وصلت للتو للديوان في الطابق الأرضي، فشعرت بنفسها مثل كرة صغيرة يتقاذفها الموظفون فيما بينهم.

قالت بعلو صوتها:”لو كنت قادرة اطلع وانزل ماكنت قدمت أوراقي”.

 بعد أن أمضت ثمانية وعشرين عاماً في التعليم، صُدمت اليوم أن شروط التقاعد لا تنطبق عليها، وأنَّ ما تقوم به يسمى استقالة، وبالنسبة لها بدا الوصول لعمر الستين والقيام بالخدمة لمدة ثلاثين عاماً، شبه مستحيل.

 في البداية أرعبتها كلمة استقالة، فالجميع يعلم أن الكلمة مقرونة بالرفض، وهي التي لم يكن لديها الخيار في حياتها ولو مرة لتقول كلمة “لا” وجدت نفسها تفعلها وتمضي بإجراءات للانفكاك من روتين يومي باتت تشعر معه بالعجز، خاصة مع ذلك الراتب الهزيل الذي لا يكفي لشراء فردتي حذاء!

نظرت لحذائها المهترئ فتخيلته يمدّ لها لسانه ساخراً. كانت في كل مرة تنوي رميه تعود لإصلاحه وحمله وتنظيفه قائلة له:”بعد ما آن أوان استقالتك انت…”

كل شيء كان مؤجلاً بالنسبة لها، وكأنها تراهن على أيام أفضل، لكنها لم تأت.

ما إن وصلت الطابق العلوي ودخلت إلى الغرفة المطلوبة حتى أعطت الموظفة الأوراق وسألتها أن تخبرها عن كل المراحل التي يمكنها اختصارها والقيام بها في الطابق ذاته. ابتسمت الموظفة الشابة وراحت تتفحص الأوراق، لفت نظرها أظافر يدها المزركشة، جعلتها تتساءل كم مرَّ من الوقت دون أن تضع طلاء أظافر أو تغير تسريحة شعرها، لم تعد تذكر متى بدأت تلبس ملابس فضفاضة وتضع ذلك الشال القاتم لتستر تحته تفاصيل جسدها.

راحت تتلمس أصابعها متحسرة كيف باتت خشنة وقاسية كالحطب، تذكرت زوجها الذي يلومها طوال الوقت على عدم الاعتناء بمظهرها.

كانت لعنة الحرب وقهرها تفيض في سراديب الأماكن حولها، وقد نالت من كل شيء وجعلتها تنسى نفسها بعد أن هاجر أخوتها وأولادها، كانت تشعر كل يوم أنها وحيدة، ولم تعد بلسمة الجراح ولا جرعات التسكين تكفي لتحيي موات الحلم داخلها.

لم تنتبه كم مرّ من الوقت وهي شاردة، عندما نبهتها الموظفة لضرورة استغلال الوقت قبل أن يُقطع التيار الكهربائي؛ خاصة إنّه يوم خميس وسينتهي الدوام أبكر من بقية الأيام.

قالت ضاحكة: “كيف لمكان كهذا أن يكون مرهوناً بساعات التقنيين؟”

ردت الموظفة ساخرة: “كل حياتنا مرهونة بالتقنين، عندما تأتي الكهرباء سيكون الجميع بانتظارها ليعمل، وكأنك وصلت البشر على دارة كهربائية واحدة وكبست الزر”.

كان عليها أن تسرع لتستكمل التواقيع الكثيرة ولطباعة الأوراق التي طلب منهم شراؤها، فالمديرية تفتقر للأوراق، الطابعة أيضاً لا تعمل، والعامل الذي استنفذ صبره بدأ يضربها بقدمه ويعلن أنها أصبحت خارج الخدمة. قالت لنفسها متحسرة: “كلنا أصبحنا خارج الخدمة وكأن صلاحيتنا جميعاً قد انتهت”.

مع كل ذلك الإحباط الذي طال المراجعين، أصرت أن تكمل جمع ملفها، فالحاجة للانفكاك والتحرر تجبرها على الصبر، قالت مشجعة نفسها: “بضع خطوات بعد وأصبح حرة”.

الأوراق الكثيرة بين يديها دلّت على حجم الجهد الذي قامت به اليوم، وعلى ذاك الإنجاز العظيم المدفوع بالصبر، وبات لا بد من العودة للمنزل، علّها تعود بعد عطلة يومين وتستكمل الإجراءات.

فكرت بكمية الأعمال التي تنتظرها في البيت، عليها أن تنطلق الآن لإنجازها، فزوجها الذي نادراً ما يحدثها، يعتبر الطعام لا علاقة له بالخلاف بينهما، وأن من حقه عليها أن تطبخ له وتهتم بشؤونه دون نقاش.

أصابها مغص وهي تتذكر تلك الواجبات التي لم تعد تحتمل تقديمها له، قررت في تلك اللحظة أن تدخل المرحاض قبل أن تكمل طريقها الطويل للمنزل.

 مرت إلى جانب الموظفين الذين كانوا يتجهزون للعودة إلى بيوتهم، قالت ضاحكة: “لازم لحق قبل ما يسكروا المكان”.

حدثت نفسها متوجسة: “مع كل سوء حظي ربما سيغلقون الباب قبل أن أخرج”.

حثت الخطى باتجاه تلك المراحيض التي خصصت للنساء. العتمة التي تلف المكان جعلتها تستعين بلمبة الموبايل لترى الطريق، وما إن دخلت وأغلقت الباب حتى عاد شعورها بالدوار. لم تعلم كم مرّ من الزمن قبل أن تستطيع استعادة توازنها، حاولت أن تنصت للأصوات التي اختفت في الخارج لتتأكد أنها ليست وحدها. مشت باتجاه الباب الرئيسي لمجموعة المراحيض لكن القفل تعطل، ارتبكت وهي تديره في كل الاتجاهات حتى اقتنعت إنه خرج أيضاً عن الخدمة، وها هو توقعها  بات حقيقة، وها هي الآن محبوسة داخل المرحاض المعتم في أعلى طابق في المديرية التي أنشأت لتيسير وإدارة شؤون المعلمين والمعلمات!

حاولت طرق الباب ودفعه لكن عبثاً، فيبدو أن العامل المسؤول (الآذن) قد وضع قفلاً خارجياً بدل إصلاح الباب، وهو جاء وقفله دون أن يحمل نفسه عناء السؤال إن كان أحداً ما لازال في الداخل.

أمسكت الموبايل لتتصل بأحد يساعدها، لكنه كان قد انطفأ تماماً، فالإضاءة كانت أجهزت على بطاريته المعطوبة. حاولت أن تصرخ بعلو صوتها، لكن يبدو أنها تأخرت كثيراً، فالمكان الذي كان مزدحماً بات صامتاً ورهيباً.

ما شغل بالها وأرَّقها في تلك اللحظة هو شعورها أن أحداً لن يفتقدها؛ أولادها الذين لا يتصلون بها سوى في المناسبات لن يفتقدونها. زوجها الذي يعيش معها ولا يكاد يحدثها طيلة النهار لن يفتقدها، وسيكون لديه مبرر لينعتها بأبشع المفردات فهي المهملة لبيتها وله.

انهارت على الأرض وهي تتساءل: “من سيفتقدني، انا المستقيلة التي لم يعد يهتم أحد لشأني ولا لتعبي”؟

لأول مرة تكتشف أنها كانت منسية منذ زمن وعادت تتساءل: متى استقالت من حياتهم ولم يعد يهمهم أمرها؟ ومتى بدأ ذلك التجاهل يصبح عنوان يومياتها؟

بدأت تصرخ بعلو صوتها: “أنا هون… لاتنسوني! أنا موجودة، أنا عايشة، أنا هون”.

لحظات صمت، وردت الجدران الاسمنتية الصماء: لن يفتقدك أحد، فلست أفضل من المرميين في الأقبية والزنازين ولم يفتقدهم أحد، لست أفضل ممن غرقوا في البحر ولم يفتقدهم أحد، لولا موج البحر الذي رماهم على الشاطئ وأجبر الناس على رؤيتهم، لست أفضل منهم! اعترفي أن ما يثير قلقك هو الموت بجانب مرحاض نتن ليس إلا … ستبقين وحدك هنا… ستتلاطمك أمواج الهلع ولن يلفظك الوقت حتى تعترفي أنك “لا لأحد …”.

عادت للصراخ: “أنا هون، لاتنسوني”.

رد صدى جدران المبنى الفارغ: لا جدوى … لا أحد سيكترث لأمر معلمة مستقيلة مع فائض أوراق مليئة بالتواقيع وتنتظر الختم الأخير لتصبح رقماً في السجلات … لا أحد.

اللوحة للفنان “صفوان داحول”

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »