Search
Close this search box.

بوح في صباح مشرق

بوح في صباح مشرق

غادة جمعة

       قبل إنبلاج ضوء النهار جلست الإمرأة الشابة بشعرها الأسود الفاحم المتناثر على كتفيها بشكل عفوي على المقعد الخشبي, مقابل مكنة الخياطة القديمة, تنظر إلى كيس كبيرمملوء بقطع القماش المُعَدَة للخياطة … في تأنٍ وهدوءْ أخذت  تفاضل بين القطع الملونة لتعرف بأي منها تباشر عملها, باشرت العمل بهمة عالية, وعلى الدواسة السفلية  للمكنة القديمة بدأت بتحريك القدمين لللأمام والخلف بخفة وإنتظام, ليتثنى للخيط المولج في رأس الإبرة التقاط قطع القماش وسحبها لللأمام, في كل مرة تأرجحت قدماها عل الدواسة, أهتز معها قلبها المكلوم في ذكرياته الموجعة,أرادت أن تشغل  قلبها عن التفكير المستمرفي وجَعِهِ, ولكن القلب لم يهدأ إلا بسماعها قرع خفيف على الباب الخارجي للبيت ,فتحت الباب لجارتها التي أعتادت أن تزورها مرارا لتطمئن عليها وذلك بعد هروبها مع أولادها من جحيم القصف في مدينتها التي هجرتها بعد فقدانها للزوج منذ سنة ونصف, دخلت الجارة وبيدها صينية القهوة, تنشقت أمينة عبق الهيل المنبعث بقوة, ليملأ أركان الغرفة رغم عتمة جدرانها المعتمة  وضوء مصباحها الخافت, سألت الجارة أمينة عن سبب نهوضها باكراهذا اليوم,فأجابتها: “اليوم سيأتي صاحب المعمل ليستلم الملابس…يجب ان تكون البضاعة جاهزة ومرتبة لتسليمها ولابد من إتقان القطع المدروزة,  وإلا لن يستمر معي في العمل”.

      على التكتكات المتوالية الخشنة لصوت مكنة الخياطة العجوز, جلست الجارتان ترتشفان القهوة وتبوح كل منهما للأخرى, بما يعتمر في قلبها من قصص وأحداث, بوح مازالت آثاره تنهش مابقي من رماد  الذاكرة المسيطرعلى نفوس مرهقة مستعبدة , زامنت مرارة السنين  … كانت أحاديث أمينة لا تخلو من المرح والمزاح أحيانا وهي تتحدث عن شقاوة طفولتها ,إلا أن قصة  ثمرة  الرمان التي قطَفَتْها من الشجرة المدللة في حديقة الجيران, على الرغم من طعمها الحلو اللذيذ, لم تدرك أمينة في وقتها أنها ستتحول إلى غَصْة مريرة تلسع قلبها على الدوام, وذلك حين أشتكى الجار لوالدها عن تعدي إبنته على شجرة حديقته المجاورة للمنزل وقطْفَهَا ثمرة كبيرة من الرمان وكيف أنها تلقتْ حينها ضربا مُبرحاً من قبل الأب, لاتُنسى نتائجه النفسية حتى هذه اللحظة… كان عقاباً قاسياً لايساوي قيمة التعدي من طفلة في عمرالسابعة  على ثمرة الرمان المشتهات , حيث أختفت بعدها أمينة عن الأنظار, لاتغادر المنزل لعدة أسابيع بسبب تورم عينيها وإزرقاق جسدها من فعل ِالضربات الشديدة بخرطوم الماء المُعَدْ خصيصاً للعقاب من قبل الأب.

        ملأت الجارة الفناجين من جديد بالقهوة وتابعتا  الحديث على صوت جرش مكنة الخياطة القديمة الذي لايتوقف تحت أرجل إمرأة شعرت برغبة عارمة للبوح المعتق بذكريات الطفولة في منزل أسرتها فقالت : “بسبب التفكير الذكوري المهيمن على أمي , ورغبتها في كل مرة لإنجاب ولي العهد المبجل للعائلة, وفي ظل هذه الأجواء المقيته في البيت والمساحة المحدودة المتاحة لي ولأخواتي في التواصل مع والدي ووالدتي, لم أشعر بالسعادة يوما وكذلك حال أخواتي الأربعة الأكبر مني سناً,كنا نتمنى دائما الخلاص وخاصة عندما تصرخ أمي لتقول :” الله يهدكم…خمس مفازيرفي وجهي “.

       تابعت أمينة الحديث وهي تسحبُ  قطع القماش من الكيس الذي تضعه إلى جانبها لتقول:”لم أستطع نسيان ذلك اليوم الفارق من حياتي ,عندما كنت في الصف الثاني الإعدادي وأنا عائدة من المدرسة إلى المنزل …في ذلك اليوم المشؤم وفي اللحظة التي أقتربت بها للمنزل شعرتُ بخطوات ثقيلة تتبعني وأنفاس بليدة تدنوا مني وكأن يد أحدٍ ما تحاول الإمساك بي ,أصبحتُ على بضع خطوات من المنزل, تعجلتُ الخطى وبدأتُ أصرخ فزِعَة, مستغيثة  بأمي,دخلتُ المنزل وأغلقت الباب لأرى من نافذة المطبخ  رجلاً يقف أمام المنزل  يتربصُ بي,  .بعد تلك الحادثة, أختلف كل شئ في التعامل معنا…أصبحنا نسمع عبارات تتكرر بين الحين والآخر, أننا بنات ويمكن أن نُسَببْ في تصرفاتنا سمعة غير لائقة للعائلة, أمام الأهل والأصدقاء وأن الحل الأمثل يكمن في زواجنا بأسرع وقت… لسوء حظي كان أول من تقدم لي للزواج هو إبن عمتي الذي لم التق ِبه يوما, بسبب القطيعة والخلافات بين والدي وعمتي منذ فترة طويلة,إلا أن مصلحة العائلتين أقتضت هذا الزواج ,وكان الهدف من الزواج هو السترة كما قالوا…تم الزواج تقليديا بإبن عمتي وهو أول من تقدم لي وبنفس الطريقة تم زواج أخواتي سابقا, دون إستشارتنا أو الأخذ بعين الإعتبار لأحاسيسنا وعواطفنا ,نظرت الجارة الى أمينة تهز رأسها وقالت :”قصتك تشبه قصتي,لاتختلف عن مجريات ماحدث لي في طفولتي إلا قليلاً”.

      أنتهت  أمينة من خياطة آخر قطعة في يدها… قُرِعَ الباب أتجهت نحوهُ لتفتحهُ وتسلم الملابس لصاحب الورشة, قابلها صاحب العمل ببشاشة وترحيب بعملها بعد أن أتْطلَعَ على الثياب وإتقان خياطتها وأثنى على حرصها في تسليم الطلبات بالوقت المناسب وطلب منها أن تقبلَ عَرضَهُ بإدارة ورشة الخياطة النسائية التي أسسها حديثاً,لأنه لايجد أكثر كفاءة منها في إدارة ورشته… تقبلت أمينة العرض وهي فرحة بالثقة التي مُنحَتْ لها, مستبشرة بالعمل الجديد وتمنت  صباحات مشرقة لكل النساء…

      لابد من القول أن أمينة تعتبر واحدة من النساء اللواتي عملن بجدية وإخلاص لامتناهي  خلال سنوات عديدة وأثبتت جدارتها كإمرأة قوية تؤمن بقدرة المرأة في إقتحام مجال العمل بقوة  الى أن وصلت إلى كسب ثقة المجتمع بقدراتها في إتخاذ زمام المبادرة وإدارة الأعمال الجماعية وهذا يعزز الفكرة  المعروفة, أن المرأة تعتبر من أهم الموارد البشرية في العالم , هي المنتجة والمستهلكة في آن واحد وإقتحامها وتحررها من قيود التبعية والنظرة الدونية للمجتمع, سيطلق العنان في تأسيس مستقبلها جنبا إلى جنب مع الرجل..

       وآخيرا ألا يحق لنا أن نسأل…أليس نجاح كل إمرأة في موقعها, سيساهم في تعزيزمكانة كل نساء العالم ويساعدهن في نيل حقوقهِنً كاملة وإعطاء صورة قوية وواضحة لحضورهنً في الحياة العامة؟

تكتكَ :أصوات دقات متوالية مسموعة (معجم العرب ).

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

 

      

      

      

 

 

 

 

                        

                        

  

 

One Response

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »