Search
Close this search box.

عشر سنوات وملامح التغيير مغيبة

عشر سنوات وملامح التغيير مغيبة

            جورج ميخائيل

تتطور المجتمعات بفضل قوانينها الذاتية وديناميتها المتغيرة، وعلى الرغم من أن الواقع قابل للتغيير ولكن معوقات النظم  المنغلقة التي تستند ضروراتها  التاريخية والاجتماعية إلى حالة ثابتة من الانغلاق، تستدعي الثورة أو الانتفاضة التي تشكل آلية من صيرورات اجتماعية وفكرية مستمرة قد تهدأ أو قد ترتطم بمعوقات تتأثر بقوة خارجية أو داخلية لكنها لا تترك الفضاء العام كما كان في تطوره الطبيعي فالثورة هي الطفرة في التطور الطبيعي للمجتمعات ولذلك تحمل مخاضات وآلام قاسية لكنها تستنبض ما كان بالقوة كامناً إلى القوة والفعل والتحقق والتواجد.

في بلادنا، الثورة وئدت كلحظة تاريخية وكحراك سياسي لكنها كفكرة وكصيرورة لم تكن تحمل الخطيئة لأن أصحابها طالبوا بالحرية والكرامة وهذا المطلب ليس من الذنب أو الاثم ليقتل وليموت أو يتوقف.

خطت الجموع التي خرجت تهتف بحقوقها وشعاراتها مسارات جديدة للمجتمعات وللأفكار وللأدوار المنشودة، والذي ميّز تلك المسارات الجديدة خروج النساء من مملكة الصمت إلى فضاء الحريّة والتشارك وتحقيق الذات التواقة لتبوء مكانتها الجديدة في عالم الثورة، وقد رأينا النساء في الاحتجاجات وفي تشكيل اتحادات وفرق إغاثة طبية وإعلام إلكتروني وتحرير الأخبار وتصوير سينمائي بأدوات جديدة، وفي التراسل مع الفضاء الالكتروني. هذا غير النساء اللواتي فقدن أبناءهن أو أزواجهن ومع ذلك لم تفتر لهنّ عزيمة أو يتخلين عن أحلامهن.

وقد تم تسجيل مظاهر ثورية جديدة، مثل مشاركة النساء في فتح أبوابهن الخلفية لحماية المطاردين والمطاردات في بيئات تسمى محافظة. إضافة إلى تسجيل حضور نسوة حاملات لافتات بمطالبهن وفي بلدات محددة تقدمت الصفوف لحماية الشباب من القنص أو التوقيف، لعلّ القناص ينزع اصبعه عن الزناد وهو يرى المرأة التي تشبه أمه في المقدمة (هكذا ظنّت نساء بعض البلدات).

لكن العنف، وفيما بعد العنف المضاد والمتبادل أخذت الأمور إلى فضاءات غير مسبوقة من القتل والعنف والحرمان المنهجي، ومن هذه الفضاءات سجلت أعمال التشبيح والاغتصاب ومصادرة الممتلكات، لكن بعض النسوة سجلن حضورهن وغامرن بفضح مرتكبي الجرائم بحقهن وتقدمن بجرأة الاتهام ضد المغتصبين مثلاً مقدمات أنفسهن كناجيات وليس كضحايا فقط. وشهاداتهن تستحق التوثيق حينما تعرضن للاغتصاب وأخرجنها إلى العلن دون خوف اجتماعي أو وصمة عار.

كما برزت أهمية المرأة في ممارستها لأدوار جديدة في الإغاثة والمساعدة الطبية، وتوجهت بعضهن إلى توظيف طاقاتهن في أعمال الاشراف على ترميم ما تهدم من خلال منظمات إغاثية لإعادة بناء وترميم بعض المنازل السكنية. كما أن بعض النساء اخترن إقامة مشاريع وتشكيل جمعيات لاحتواء ظاهرة فقدان المعيل عبر مشاريع صغيرة مدرة للدخل، واستقطاب الطلاب المتسربين من المدارس واقامة دورات اللغات والموسيقا والرسم والدعم النفسي. ووصلت شجاعة بعضهن إلى حصولهن على تراخيص جمعيات تقيم نشاطات ودورات تدريبية لتمكين الشباب والشابات من الحصول على خبرة  مهنية لبعض الأعمال المهنية الضرورية، كإصلاح الموبايلات أو صناعة الأفران الشعبية المرتجلة.

واختارت بعض النساء القيام بتسويق وإنتاج زراعي ومطابخ جوالة بسيطة وتحضير المونة، وتوظيف طاقاتهن في أعمال خارج وظائفهن الحكومية مثلاً، حتى أن بعضهن ترشحت إلى انتخابات البلدية رغم معارضة الزوج والعائلة أو الجهة القانونية الناظمة للانتخابات.

وكثير من النساء صرن هن المعيلات الرئيسات للعائلة المتبقية بعد                     اختفاء الأب المعيل، فتغيرت صورة الرجل المعيل الوحيد، ورافقتها، بل طغت عليها صورة جديدة للمرأة المعيلة المنتجة والباحثة عن مشاريع انتاجية صغيرة كالخياطة والورش المنزلية الصغرى لتصنيع اكسسوارات أومنظفات أو أطعمة معينة وتسويقها.

(ف ـس ) سيدة فتحت محلها الخاص في ظل غياب زوجها المعيل خارج البلاد وفي أشهر الحظر بسبب الكورونا اختارت شكلاً جديداً لتواجدها في محل الخضراوات المسموح فتحه لتحصيل دخلها من خلال تحويل الوحدات ودفع الفواتير للزبائن المحتاجين أو المقطوعين جغرافياً عن مراكز التسديد والخدمات.

أما (س) التي تتذكر الأيام الأولى لاندفاع الشباب والشابات في جميع البلدان العربية وهي مكتفية بالفرجة التلفزيونية، تجد نفسها اليوم تؤمن بغد أفضل وتمارس عملاً جديداً كمتطوعة في جمعية إغاثية محققة ذاتها الانسانية التواقة إلى حماية الفقراء والمحتاجين، وخاصة من النساء، في صون كرامتهن واستبعاد احتمال لجوئهن إلى خيارات غير انسانية ولا أخلاقية لتحصيل لقمة العيش.

كما يلاحظ على الصعيد الفكري والإنتاج الأدبي والفني تقدم المرأة خطوات في هذا المجال من خلال تراخيص دور النشر أو انشاء جمعيات ثقافية ومنتديات لتشكيل فضاء ثقافي متمايز وتجميع طاقات الشباب /ات.

 وازداد عدد النساء المتطوعات والراغبات بالمشاركة في نشاطات نسوية وورش للتدريب الجندري كما زاد عدد الناشرات لقصصهن واشعارهن وشهاداتهن حول ضرورة بناء عناوين نوعية وجديدة تواكب حركة النهوض التي تخطتها النساء وتجاوزت عتبة القنوط والاستسلام للاكتئاب والعطالة. وخير مثال على فرادة المواضيع المستجدة هو تفرغ سيدة تدير ملتقى ثقافي اختارت تدوين وتسجيل جماليات ولهجات ومواقع في منطقة ريفية معينة، ودعمت مشروعها من خلال القصة القصيرة بهدف التوثيق والنشر والحفاظ على ذاكرة المكان ولغته.

واستطاعت النساء بعد اكتشاف فضائهن الجديد وقدراتهن، العمل على ترابط العائلة،  وذلك في ظل غياب المعيل غير المبرر أو اندثار الحب الزوجي أو التعنيف كشكل للعلاقة الزوجية من طرف واحد، فبادرت بعض النساء إلى طلب الطلاق من طرف واحد لأن الآخر لم يعد كفؤاً للزواج أو للحب وديمومة الأسرة، وهذا تبدل لافت شكل كابحاً لتبرير العنف الزوجي والمجتمعي وكأنه جزء طبيعي من الحياة.

لقد كان اهتمام النساء بالمسائل الاجتماعية كالعمل والأسرة والإغاثة نابعاً من حد معين من الغيرية  والتفاني والتضحية، وعلى هذه السمات تأسست ممارسات جديدة وطرق بحث حياتية جديدة. فالأم تريد حماية عائلتها الصغيرة، ولأن العنف صار عنوان المرحلة آثرت السفر والهجرة بعد السنوات الأولى، وهكذا اختارت الكثير من العائلات أمانها الأسري في الهجرة، رغم المعوقات في طرق سميت طرق الموت، وكانت أحيانا بقيادة نساء من مختلف المناطق والطوائف والقوميات، واللواتي نجون من الموت يعشن الآن في البلاد الجديدة وقد انزاحت عن كواهلهن معوقات وأفكار استبدت بهن سابقاً.

وفي المجال النفسي والشخصي للمراة في بلادنا، يعلن الباحثون في الأمور الاجتماعية، والذين كانوا يعترفون بوجود عقدة نقص لدى المرأة ازاء الرجل، تتحكم بها وتصادر مكامن قوتها وادارتها للحياة، تجدهم يتراجعون الآن عن ذلك التوصيف، لأن النساء  وقد امتلأن بالقدرة على المبادرة بكل قواهن التي اختبرنها بحزم وعناد وصبر، سيشكلن حافزاً متقدماً نحو الأمام، ولا انكفاء بعد اليوم.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »