منتهى شريف
“بيكفي …خلص تعبنا تعبنا…!” صرخت نبال وهي تنزع الكمامة عن وجهها بعصبية ثم راحت تمزق الورقة التي عادت لها مذيلة بجملة “مع الرفض”.
كان طلباً لإجازة بلا راتب من مديرية التربية، لكنهم كالعادة يقابلون كل مطالبنا بالرفض، والإجازة بلا راتب صارت كغيرها من الإجازات، من الصعب الحصول عليها.
جميعنا يعلم كم كانت تحتاج تلك الإجازة، وكنا ننتظر النتيجة كي نحذو حذوها، كلنا نحتاج الهروب من هذا الدوام اليومي المرهق الذي لم نعد نؤمن بجدواه، والإجازات الصحية باتت صعبة المنال إلا إذا كنا طالبها على حافة الموت، فهي تحتاج العديد من الفحوصات الطبية والتحاليل والتقارير والصور التي تكلف مبلغاً كبيراً من المال.
منذ بداية العام الدراسي ونحن نتساءل كيف نسيِّر امورنا، و العبء الذهني الذي يقع على عاتقنا لإيصال رسائلنا كمعلمات يتضاعف، فلا شيء نملكه سوا أصواتنا المتخرشة وملامحنا المختفية خلف الكمامات ودعوات لالهامنا الصبر وجملة “لا حول ولا قوة”.
نواجه يومياً تحديات جديدة تضاف إلى مطالباتنا التي لا تلق أي جواب حول ترميم البناء القديم المتهلهل للمدرسة،و ترقيع الجدران المتشققه للصفوف التي تتسرب منها المياه والعفن كل حين، والنوافذ الضيقة لغرف الصفوف و” الكولبات” التي ازدحمت حول المدرسة وتكاثرت كالبلاب لتحرمنا من ضوء الشمس، وتتركنا أسرى للتيار الكهربائي الثعلبي المزاج.
الأمور ازدادت سوءاً مع تفشي وباء كورونا، فعلى الرغم من كثرة الجمعيات الخيرية ومساعدة “الأيادي البيضاء” وبعض المغتربين إلا أنها لم تنجح بتغطية كل ما يلزم، فقد تحتاج أن تمسح السبورة بمنديلك الخاص وتكتب بمداد روحك، لان المستلزمات المدرسية باتت شحيحة وذليلة كالزاد والنور والدفء .
لكن نبال كان همها مضاعف، فزوجها اختفى فجأة وتركها وحيدة مع ولدين، أكبرهما لم يتجاوز السادسة من عمره.
وفي كل مرة تجلس معنا في غرفة المعلمات تعيد لنا شريط الحسابات الذي حفظناه عن ظهر قلب: أجرة البيت خمس وعشرون ألف وقسط الروضة للصغير خمس وعشرون الف وأقساط الهاتف والكهرباء عشرون ألف ولكي تصل من القرية القريبة حيث تسكن إلى المدرسة هي وابنها الاكبر تحتاج ثلاثين ألف ليرة شهرياً، وفي كل مرة تنهي حساباتها بنفس الجملة “أحتاج مئة ألف شهرياً لكي أعمل هنا، بينما راتبي هو خمسون ألف .. إذن فقط اريد ترك الوظيفة .. هذا كل مطلبي”.
كثيرات مثلها يحتجن لمعجزة للاستمرار، فنحن النساء نخوض معاركنا اليومية وحيدات، من أجل الإبقاء حياة وكرامة أسرنا، نحاول جاهدات كل يوم أن ننتصر في معارك صغيرة تستهلك أرواحنا وأعمارنا بدون نتيجة تذكر، فالتاريخ لا يذكر الانتصارات الصغيرة غير المرئية.
لم يبق الكثير من الرجال في مهنة التعليم، ومعظم الوظائف الحكومية أصبحت مؤنثة، ليس لثقة المختصين وأصحاب القرار بالمرأة بالطبع، بل لأنه لم يعد على جبهة الوظائف غيرهن، بعد إقالة معظم المعلمين في سن التجنيد أو بسبب هجرة الرجال المستمرة، أو ربما لأن الوظيفة الحكومية تؤمن دخلاً شحيحاً لكنه يوحي بالاستقرار، شيء صغير أفضل من لاشيء، ساقية ضعيفة وشحيحة جارية أفضل من نهر مقطوع، هكذا نرد في حواراتنا في غرفة المعلمات على شكوانا، نشتكي ونبحث عن رد على الشكوى ونشرب قهوتنا السوداء ثم نقلب فناجيننا على عجل لنبقى على أمل بالخطوط البيضاء فنعدها كإشارات لفرج قريب، هكذا نحن هنا، في المدرسة المحاصرة والمحجوبة عن الشمس بكولبات الألعاب والأسلحة والتعويذات والحبوب المخدرة.
لكن هذه الساقية الشحيحة جداً والتي لا تسد الرمق أصبحت مع الوقت قيداً اضافياً، سجناً من الصعب الهروب منه ولو ليومين، و “جاء الوباء ليفضحنا ويبين عجزنا، نرثي لحالنا، نعدّ خساراتنا التي لم تعد تحصى، رحيل أحباب لنا دون وداع، خوفنا على كبارنا وهجرة أبناءنا وازواجنا واخوتنا، خسارة سنيّ عمرنا المتهالك، وأفدحها، إهمال أنفسنا وأنوثتنا.
نحاول جميعا أن نستمر متفاخرات بطرق التحايل على العيش، كأن نطبخ من بيوتنا ليومين متتاليين ونكتفي بما لدينا ونزرع كي لا ندخل سوق الخضار، نحتطب كل ما يقع تحت أعيننا لندفئ منازلنا الباردة، متناسيات الكثير من اللوازم الحقيقية تحت ذريعة أنها أصبحت من الكماليات.
“جاي على بالي أمسك هالعصاي وانزل بهالطلاب ضرب.. ضرب خليهن يفصلوني من التعليم.”
قالت نبال هذا بجدية كدنا نشك انها حقيقية، لولا ابتسامتها التي جعلتنا نقهقه على هذه النكتة المبكية، هي كانت تكرر دوماً أن الحرب بلاء عظيم، فهي تخلف الموت والفقر والتخلف وستكون اسوء نتائجها حرمان أولادنا من التعليم، لذلك فأننا “نقوم بواجب مقدس”، تذكرنا تلك الجملة ورحنا نضحك ودخلنا مع نبال بنوبة ضحك وشتم لكل شيء متناسيات خصوصية المكان الذي نحن فيه، وقبل ان ننتهي تفاجئنا برؤية الباب ينفتح بقوة، ورحنا ننظر اليه مندهشات وهو يختال في مشيته بيننا، بلباسه العسكري ومسدسه الذي يزين خصره، نظراته المليئة بالشك راحت تتفحص وجوهنا الشاحبة وأعيننا المحمرة.
توقف وسط الغرفة سائلا بصوت أجش عن المسؤولة الإدارية بيننا، ثم عرف عن نفسه: “أنا من الأمن”، شهقت نبال مرتعبة وبلعنا السنتنا تاركين آذننا تصغي لما يقوله بعد ان أشرنا بأصابعنا للادارية:
_ “بدي وقع ورقة إجازة صحية”.
قرأ ت زميلتنا الإدارية الاسم الموجود على طلب الاجازة الصحية التي قدمها لها، لا نعرف المعلمة، فهي لم تلتحق بعملها وقد شكل غيابها عبئأ علينا منذ بداية العام الدراسي، حاولت زميلتنا أن تشرح له بأنهم لا يوافقون على إجازات في هذه الفترة وتشير إلى نبال التي رفض طلبها للتو، وإلى زميلتنا الأخرى التي تعاني من الديسك ولم يعطوها ولا يوم إجازة ، لكنه قاطع شرحها بضحكة عالية:
_”نحنا، ما حدا ممكن يقول لنا لا”
دون أن تنظر في وجوهنا امسكت القلم وخفضت رأسها ووقعت الورقة.
ما ان ابتعد مغلقاً الباب، حتى تلاقت نظراتنا مع نبال فاطلقنا معا ضحكة اهتز لها المكان، سرعان ما تحولت لبكاء مرير بلل اوراق صمتنا وعجزنا.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”
