Search
Close this search box.

رصاصة شاعر

رصاصة شاعر

منتهى شريف

لطالما كان صوت إطلاق الرصاص يصيب أيهم بهيستريا، فيبدأ بالصراخ ويركض هارباً إلى اللا مكان، يدور حول نفسه بخطوات تائهة متشبثاً بصرته التي لا تفارقه ولا يمكن التكهن بما تحتويه، مكرراً بصوت مخنوق ذاك السؤال الغريب: “أنا قاتل! وين بدي روح؟”

منذ بضع سنوات ونحن نراه في شوارع البلدة، يعتمر قبعته الصوفية وقفازات سوداء لا يخلعها لا صيفاً ولا شتاء، يجيب من يسأله عنها: “الدم … الدم ما عم ينغسل عن إيدي”.

 مضت عدة سنوات على تلك الحادثة التي غيرت حياة أيهم وتوءمه إلهام التي جمعها معه رحم واحد وصداقة وأحلام وصفات أخرى عديدة، أحدها الرقة المتناهية والشغف بالشعر.

  كانا يحضّران لامتحان الشهادة الثانوية وكان أيهم يهرب من الدراسة لنظم الشعر، فيكتبه بين صفحات كتبه بشكل فوضوي لتعيد الهام جمعه على أوراق صغيرة، وتكمله بوضع لمساتها عليه، مؤكدة أن هذا الشعر الذي يتقاسمانه سيغير حياتهما يوماً.

 لم يتوقع أن يفرقهما شيء حتى تلك اللحظة حين غلبه فضوله لاكتشاف المسدس الأسود الذي كان مرمياً على طاولة والده باستهتار، استهتار الوالد لم يكن إلا جزءاً من الإرث الذي تركته هذه الحرب وانعدام الأمن وضياع الثقة في كل شيء، الأسلحة وحدها هي المصدر الوحيد للثقة كما كان يكرر الأب، لكن فضول أيهم سيدفعه للضغط على الزناد في اللحظة ذاتها التي كانت تدخل فيها أخته الوحيدة الغرفة لتشاركه كتابة قصيدة جديدة.  

على الرغم من أن إلهام استطاعت يومها النجاة، فالرصاصة التي اخترقت رقبتها، مرت بمحاذاة الشريان وخرجت بمعجزة دون أن تقتلها، لكن خوف أيهم الذي انطلق جامحاً لم يعد بالإمكان لجمه، بقي هناك يستعيدها ويحاول جرّ الزمن للوراء، هي لحظة واحدة يحتاجها الجنون ليستبيح عقل الفتى ويشل ارادته بالاستمرار حيث كان.

منظر الدم المتدفق وخوفه عليها، نظرات الناس التي راحت تحاصره، و ذلك المحقق بسؤاله القاتل: “شو عملت اختك لحتى قوصتها؟”

ذلك السؤال اللا منطقي كان يحتاج لإجابة غير منطقية، وكان جواب أيهم دائماً هو الصمت.

امضى عدة أيام في السجن دون أن يزوره أحد ودون أن يعرف عن مصير أخته، وحيداً مع صوت الرصاصة الوحيدة  وسؤال المحقق ” شو عملت أختك لحتى قوصتها؟ ” والدم الكثير الذي بدأ يخرج من عنقها ليغطي الأوراق والقصائد والأحلام التي جمعتهما.  

 بعد خروجه من السجن لم يعد أيهم كما كان أبداً، لا شيء أصلاً يعود كما كان، كلنا أصبنا بالجنون، كل شيء يفقد معناه، لا أهمية لحياة ولا لمشاعر ولا لجنون فرد منا، هذا الوقت عصيب وسريع ويجعلنا نقفز عن حكايا الكثيرين حولنا، عن مشاعرنا، عن مراحل جنوننا التي لن ندركها لأن وقتنا ضيق جداً وعصيب.

منذ بداية الحرب ازدادت الجرائم  وأصبح الموت بطل أيامنا، ليس المرض وحده وسوء التغذية والجائحة. وليس وحده الضغط النفسي والقهر ما يميتنا، بل إن انتشار السلاح العشوائي يحول أطفالنا ومراهقينا كل يوم  إلى قتلة أو مقتولين. ويبقى سؤال المحقق اللعين دلالة بؤسنا، دلالة على العماء الجمعي، ليس المحقق فقط من صوب رصاصة السؤال، بل الجيران والأهل: “ما الذي فعلته أختك حتى تطلق عليها رصاصتك التي أفلتت من زند مسدس بريء مرمي على طاولة والدك الذي اشتراه بنقود تعليمك من أجل حمايتك؟”

منذ مدة ونحن نسمع عن الجرائم التي تحدث باسم الشرف، شابة تهرب من والدها الذي يعلم بعلاقتها بشاب من طائفة اخرى فتقع بين يدي عصابة تتاجر  بالنساء وعندما ترفض بيعها يتم قتلها ورميها بحرش القرية، شابة أخرى تموت على يد والدتها وخالها إثر ضربها (بالشاكوش) على راسها بعد أن تشك الأم أنها حامل دون زواج، أم لثلاثة أطفال يقتلها زوجها أمام أعين أطفاله لشكّه بأنها على علاقة مع رجل آخر.

تلك القصص بتنا نسمعها دون اكتراث، وكأن الحرب نجحت بابتلاعنا يوماً بعد يوم بحيث لم تعد تثيرنا، لكن أيهم  كان يغرق في هذه القصص وكأنه هو القاتل الوحيد لكل أولئك النسوة، وكانه ضميرنا الهارب.  

هو يهرب كل الوقت، يركض ويركض إلى أن يهده التعب، يختار أن يرتاح في زاوية نائية ويحاول لملمة شتات عقله.

عاد صوت الرصاص يصم أذنيه، فالاشتباكات بين شباب البلدة لاتنتهي، والذي لديه اسلحة اقوى يحتاج إثبات وجوده على الأرض وفي السماء، في الأفراح والأتراح، في الأعياد الدينية والمناسبات الخاصة، لا صوت يعلو هنا فوق صوت الرصاص.

يحتضن صرته  ويهيم  في الشوارع مثل كيس بلاستيكي فارغ، عيناه على السحاب العالق على جسد السماء كقصائد بعيدة نسيها منذ حين، يركض تجاه شجرة التوت التي أخبرته اخته مرة أن لأوراقها تأثير سحري على كتابة الشعر فالسماء فوقها تكاد  تكون أبدية الزرقة، لكنه لا يرى إلا غيوماً رمادية، ويبدأ هطول المطر مع أسئلة ثقيلة تنهمر على رأسه:

اي شجاعة تلك التي خانتها؟

أي شجاعة كانت ستنقذها من بين يديّ والدها الذي رفض الاستماع لها وقام بتمزيق كتبها؟

أي شجاعة والجميع راح يرجمها  بنظرات قاتلة ويعاملها كمذنبة؟ هي الصامته حد الموت، لم يعد يعنيها الدفاع عن نفسها  بعد جنون أخيها، كانت فقط تود أن تؤكد له أنها سامحته وتحتاج فقط أن تشاركه بعض لحظاتهما القديمة لكي تنسى الجرح الذي تسببه لها في رقبتها وفي سمعتها.

أي شجاعة كان يحتاجها أيهم كي ينظر بعينيها ويعتذر منها قبل أن يهرب للجنون؟

كانت  كل الأسئلة عالقة بين الرصاصة والهدف عندما بدأ أيهم يتفقد أصابعه وذاكرته، فتجمد أمام عينيه منظر أخته إلهام وهي تتدلى ميتة من على غصن الشجرة!

فتح صرته القماشية المهترئة وأخرج منها أوراقه الصغيرة المليئة بالقصائد التي أحبتها وبدأ ينثرها على أغصان شجرة التوت الذابلة فوق قبرها الحجري.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »