Search
Close this search box.

رماد الذاكرة

رماد الذاكرة

غادة باكير

تختفي التفاصيل بالتدريج ويبدو الماضي القريب سراباً يلوح في أفق العقل, وتتحول الصور والذكريات إلى عبء يطاردك في طرقاتك الجديدة. تقف لحظة صمت مع نفسك وقد بدأت مرحلة جديدة في حياتك تحتاج فيها أن تعيد ترتيب ذاتك وتتنفس الحياة من جديد.

(غالية) بأعوامها التي تجاوزت الأربعين قضت ليلتها الأولى في مكان يبعد مسافات طويلة عن مدينتها, ويختلف كثيراً عنها, لم تكن لحظاتها سهلة بالرغم من الإرهاق الجسدي والنفسي, فقد حاولت أن تسلب بعض الراحة أثناء محاولتها للنوم لكنها عجزت عن ذلك. تنظر لمن حولها وقد أعياهم الطريق والواقع الجديد المفروض عليهم يغطون في نومهم أو يتظاهرون بالنوم, وحدهم الأطفال كانوا نائمين بالفعل.

لا يوجد حولها مساحة لتتحرك فيها, فالغرفة الصغيرة تضم خمسة عشر جسداً منهكاً من طول الطريق والجوع والبرد مما جعل الجلوس خارجاً ضرباً من الجنون مع هذا المطر والرياح الشديدة.

تنظر لهاتفها قليلاً, تتابع رسائل بعثتها إلى بقية أسرتها وأصدقائها لتسألهم أين استقرّ بهم المطاف… تتلقى أجوبة مخنوقة ومختصرة وكأن الحروف أصبحت عصية على الكتابة فلا أحد قادر على استيعاب ما حصل وكأنهم جميعاً يتابعون عرضاً مسرحياً لمأساة تتكرر منذ أعوام وهم كمتفرجين ليسوا سوى دمى متحركة في يد من يكتب ويخرج هذه المأساة.

يخرجها من شرودها صوت أخيها الأكبر والذي تجاوز الخمسين من عمره عبر رسالة صوتية على هاتفها, صوت بائس تلقفته روحها بوجع وهي تسمعه يردد والغصة تخنقه في هذا الطقس الشديد البرودة والمطر الذي يبلله مع أولاده, وسيارة أجرة صغيرة تنقل بعضاً من أثاث منزلهم.

كان صوته مرتجفاً وهو يقول: نحن عند حاجز قرية (معبطلي) ولا نعرف إلى أين نذهب؟

تنظر لساعتها إنها الثانية عشر ليلاً، ترتسم صورة عائلة أخيها أمام عينيها في هذه العتمة والمطر الشديد وكمية الضياع الذي يعانوه، لذلك تقرر أن تؤجل قهرها ودموعها كي تجد وسيلة لمساعدة أخيها رغم وجودها في مدينة (الباب) في ريف حلب الشرقي والمسافة بينهما بعيدة.

تتذكر أحد أصدقائها وهو مُهجّر من غوطة دمشق ويقيم في مدينة (عفرين) تتواصل معه للمساعدة فيحاول طمأنتها وحثها على التهدئة من روعها ويعدها بأنّ الأمر سيحل فوراً.

وقبل أن تنقضي الساعة التي كانت تنهش صبرها وتقضم آخر ما بقي في روحها من صبر, تتابع جوالها كل ثانية لترى هل وصلت رسالة من صديقها تمنحها بعضاً من الراحة فتنهار دموعها حين لا تجد جواباً, ثم ترتعد كلّ حواسها لدى سماع صوته: “لقد وصلت عائلة شقيقك إلى منزل أحد الأصدقاء وهم الآن حول المدفأة”.

تبدأ بالبكاء بصوت خافت كي لا تُقلق مَن حولها، تفكّر بصمت وتقول في نفسها: “مَن كان يظن أننا سنعيش هذه اللحظات وتتفرق عائلتنا المكونة من ثمانية إناث وثلاثة ذكور في أنحاء الشمال السوري ويذهب كل واحد مع عائلته وقهره وحنينه إلى مكانٍ مجهول”.

لم تكن تتخيل أن يأتي يوم ترى شقيقتها الصغرى تبكي في خيمة ضمن مخيمات قاح بعد أن احتارت بأمرها مع زوجها الضرير الذي كان البرد والمطر قد نال من جسده المريض فزاد في سقمه بعد مغادرته لمنزله لتشفق عليهما عائلة مهجرة منذ سنوات في المخيم وتمنحهما خيمة بسيطة ريثما يتدبران أمرهما.

لم تتمكن (غالية) من معرفة مصير باقي أفراد عائلتها وما زالت تنتظر أجوبة ليطمئن قلبها على مَن تبقى… وتمرّ الدقائق وكأنها شظايا الصواريخ التي كانت تخترق الأجساد البريئة وتمزقها، كانت تتمزق من داخلها في محاولة لإخماد نيران في القلب تزيد من برودة الجسد.

ومع اشتداد صوت الريح في الخارج وتساقط المطر أغلقت عينيها لترسم صورة منزلها البعيد في هذا الليل القاسي, تذكرت كيف كانت تقف في نافذتها وتستمتع بمراقبة حبات المطر وهي تغسل أصص الورود في الخارج, وبيدها كوب قهوتها تختلط رائحتها برائحة المطر فيسري الدفء في أوصال ليلها.

لم تدرك هل كانت تحلم أم أنها تتأرجح بين النوم واليقظة حين فتحت عينيها فصدمت برؤية منزل غريبٍ بارد يضمها مع من حولها، عادت للنظر إلى هاتفها, تتابع رسائل بعض أفراد عائلتها فإحدى أخواتها هجرت إلى إدلب, وأخرى حطت رحالها في بنش, وما زالت تنتظر أخبار البقية حين سمعت صوت أذان الفجر زاد من شعورها بالغربة فهو لا يشبه صوت المؤذن في حيّيهم.

مر الوقت ثقيلاً وهي تنتظر خبراً من شقيقها الأكبر بعد ليلة صعبة وقد تجاوزت الساعة الثامنة صباحاً حين اتصل بها ليطمئنها أنه انتقل من (معبطلي) إلى مدينة (عفرين) وهو يقيم الآن في منزلٍ بسيط بمساعدة الفرق التطوعية التي تعمل على إيواء المهجرين.

شعرت (غالية) عندها بالراحة فقد اطمأنت أنّ شقيقها وعائلته بأمان الآن عكس مدينتها التي فقدت أمانها وأبناءها.

(سراقب) تلك المدينة الجميلة، التي تحمل رمزية وخصوصية في الثورة السورية فقد كانت لوحاتها الجدارية التي توزعت على حيطانها تُذّكر العابرين بكلّ حدث في سوريا, ففي كلّ مناسبة كان الشبان يخرجون بعبارات مميزة,  ورسومات توثق ما يحدث من مجازر في سوريا أو أحداث تجري في محافظات بعيدة، من يتجول في شوارع (سراقب) سيرى أريحا والسويداء وحمص وحلب ودرعا كلها محفورة بألوان العشق والأمل بالحرية ولكن اليوم  27/1 /2020 تغير وجه المدينة الغافية في صمت بعد تهجير شعبها إثر اقتراب جحافل التتارمنها  لتحتل بيوتها وتنهب خيراتها وتسلب ذكريات محفورة على جدرانها، إنها قوافل النظام السوري التي تعيثُ فساداً على كلّ أرضٍ تطؤها.

(سراقب) اليوم تشبه أولادها التائهين على طرقات التهجير, يحملون غصة في الروح ودمعة مخنوقة على حواف القلب وسؤال واحد يرتسم في مخيلتهم متى سنعود؟

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »