Search
Close this search box.

ماذا يريد صاحب الجلالة؟

ماذا يريد صاحب الجلالة؟

عنتاب – غادة جمعة

 كان عادياً أن تتوقف الحياة فجأة وتتسمر الأقدام في المكان وينشف الدم في العروق، عندما يتناهى إلى سمعنا صرير باب الزقاق الخشبي، عندما يفتحه صاحب الجلالة مجتازاً ردهة المنزل… كعادته يدخل عابساً صامتا، ليصعد السُّلّم بقامته الطويلة المستقيمة، متجهاً إلى غرفته الخاصة التي توسطت الموزع الواسع، وكأن غرفتهُ في هذا المكان اُختيرت خصيصاً كبرج مراقبةٍ يطلُّ على كل صغيرة وكبيرة، ليتثنى لصاحب الجلالة من موقعه هذا السيطرة على كلّ اركان البيت وسكناته، ومن الفتحة السفلية لنافذة الغرفة الواسعة يلفت نظرك فتحة دائرية في (الخص) الخشبي للنافذة، إذا نظرت من خلالها للأسفل, قابل نظرك باب الزقاق الكبير ذو السقاطات الحديدية، يقف شامخاً قائماً، مُطلاً على الشارع الرئيسي معلناً أنّه باب المنزل لعائلة أرستقراطية.

       كان جدّي يعود مساء من عمله في كراج الحافلات الذي كان يمتلكه، يحمل معه كل تبعات نفوذه المالي والسلطوي إلى بيته، في اللحظة التي كانت قدماه تطأ أرض المنزل يغلب الوجوم والصمت على الوجوه… وكأنه هدوء ما قبل العاصفة فتهرع جدتي مسرعة الى غرفته بعد أن ترمي ما بيديها لتقوم بعمل ما اعتادت عليه كل يوم من خلع ملابس صاحب الجلالة وترتيبها داخل الخزانة  المصنوعة من خشب الجوز البني ودون قصد مني أجدني أسترق النظر من خلال درفة الباب نصف المفتوحة، لأعرف ما يجري من حديث بين جدي وجدتي في تلك المملكة الغامضة التي أتوجس دخولها حتى عند وجوده خارج المنزل، كان صوته الحاد المنبعث من بعيد، يبدو وكأنه شجار… لا تجرؤ جدتي الردّ عليه معظم الأحيان، وإن أجابت عن تساؤلاته، كانت تجيب بصوت خافت منكسر لتخرج بعد نقاش غير متكافئ، متجهمة الوجه, تتقاذفها كلماته اللاذعة, تحمل معها الجوارب والحذاء… على الغالب للغسل والتلميع، ثم لتعود إليه بعد قليل بطبق اللحم وخبز السكري الأسمر مع طبق الحساء الساخن، تقف تنتظر لا تغادر الغرفة إلا بعد أن يشيح بوجهه عنها محاولاً تحريك مفتاح المذياع ليفاضل بين المحطات الإذاعية الإخبارية، كانت طلباته شيئاً وتنفيذها طوال النهار شيئاً آخر، أما بالنسبة لي رغم صغر سني كنت أُدرك أنّ كل ما كانت تقوم به جدتي قبل وبعد حضور جدي كان من أجل كبح رعونته وكفّ تسلطه عليها، توخت في عملها الدقة المتناهية كي لا تثير غضبه عند عودته للمنزل وكأنّ حياتها رهن رضائه.

     إشارات استفهام عديدة كانت تجول في خاطري وأنا اشاهد هذه العلاقة التسلطية اللذيذة  بين رجل وامرأة، ظلم القوي للضعيف، ورغم أنه لم يتطاول عليها يوماً في ضربٍ أو شتيمة… لكن لطالما افتقدت ضوءً لابتسامة على وجهه وتاقت منه إلى كلمةٍ طيبة، ولا أخفي عليكم أنني لطالما شعرت بالحنق لأسلوبه المذلّ بالتعامل مع جدتي وتمنيتُ لو أنها صرخت مرة واحدة في وجهه على الأقل لتقول له: “كفى، أنا لست ضعيفة واحتياجك لي أكثر بكثير مما أحتاجه منك، أنا أُنجب وأرعى أبناءك العشرة وعندما تعود آخر النهار تدخل كالطاووس متعالياً متغطرساً، لا تترك لي الخيار في شيءٍ لتتحكم بجبروتك وتسلطك بكل أمور المنزل وهمساته”.

       كبرتُ ورحلَ جدي ورحل معه طقمه الأبيض وشارباه المحددان بعناية فائقة وبقي المشهد نفسه أمامي بشخصيات جديدة أقابلها كلّ يوم، لا تقلّ تسلطاً واستبداداً عن الماضي ولها نكهة ذكورية عصرية، لا نستطيع التغاضي عنها أو تجاهلها، لأنّ السلال مازالت محمّلة بأفكار الماضي وقصص الاستبداد، وعاداتٍ وتقاليد بالية، حكاياتٍ عن القهر والتحكم بالمرأة، بدأت منذ وجود الخلق وعمّت كلّ شعوب العالم كالوباء المتفشي دون إيجاد علاج حقيقي لها على مر العصور، إنّها مآسي ما قبل عهد الفينيقيين عام (2500) قبل الميلاد حيث وُصفت المرأة أنها بلا روح وكان عقابها إذا أخطأت صبُّ الزيت على جسدها حتى الموت، أما الصينيون فقالوا عنها إنها المياه المؤلمة التي تغسل السعادة وللزوج الحق في دفنها حية، وكلنا يعرف كيف كان الهنود يحرقون المرأة وهي حية بعد وفاة زوجها، وكذلك العرب في الجاهلية كان جلّ ما يُغضب أحدهم خبر المولود الأنثى فيلجأ الى دفنها ووأدها ليتخلص من عارها، ووصف اليهود المرأة باللعنة وأنها سبب كلّ لعنات الحياة، أما في القرن السادس عشر للميلاد في أوروبا فقد جرى النقاش حول ماهية المرأة، هل روحها حيوانية أم انسانية؟ وأخيرا منّوا عليها وأقروا أنها انسان خُلق فقط من أجل خدمة الرجل.

      كان دور المرأة منذ القدم الاهتمام بمملكتها الصغيرة، كما كان وضع أغلب جداتنا، حيث اتكأ الزوج خفية على جدار صبرها وتلقى منها أول دروس البر والرفق والصبر، رغم أنها كانت وماتزال ملهمة نجاحه ومن تعينه وتؤازره في سبيل لقمة العيش… لكنّ الرجل يرى في نفسه القوامة ويرى في زوجته الضعف والاستكانة في كل ما يفرضه عليها وليست في نظره سوى ظلّه الذي يمشي وراءه. ورغم أنّ هذه النظرة  الدونية للرجل نحو المرأة مرت بأطوار عديدة غير أنها ماتزال مستعصية الحل ومالئة الدنيا وشاغلة الناس ومازال الرجل يعتبر نفسه المشرّع والمقدّر والقائم على المرأة تاريخياُ فتارةً يعطيها بعض الحقوق وتارةً أخرى يسلبها إياها، وقضية المرأة ليست محكومة بالتقاليد والعادات فقط ولكن بالتشريعات وبالممارسات الاجتماعية التي لم تضمن معاملتها كمواطنة منذ زمن طويل، كسائر النساء لم تتفوق جدتي بمنصب قيادي أو وظيفي هام كما هي المرأة الآن ولكنها تميزت بالقوة والحكمة في تسيير أمور بيتها وعائلتها الكبيرة ولم يكن صاحب الجلالة يتميز عنها إلا في هيمنته و نظرة الاستقواء الذكورية التي عششت في مخيلته، فغدا متحكما في كل صغيرة وكبيرة على حساب امرأة. لو ادرك جدي مقولة الفيلسوف ابن عربي عن المرأة: “حنين الرجل للمرأة حنين الشئ لنفسه وحنين المرأة للرجل حنين الشئ لوطنه” لأعطى جدتي بعض حبه وعبر بشدة عن احترامه وتقديره لجهودها المساوية لعمله خارج المنزل, فأصبحت اكثر غبطة وسعادة في مملكتها الصغيرة.

      لا نستطيع أنّ نمرّ دون أن نتذكر العديد من النساء اللواتي تمردن على القهر والاستبداد وانتصرن عليه وأبدعن في العديد من المجالات.لا تزال الثورة النسوية تتصدر الزمان والمكان, بحيث لايمكن اغفال التغييرات التي حدثت بسبب الجهود التي بذلتها المرأة لتتغلب على ذلك المجتمع بعاداته وتقاليده المقيتة.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

                                                                                    

 

  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »