Search
Close this search box.

في عنق الزجاجة

في عنق الزجاجة

منتهى شريف

 “دخلتُ البيت مفزوعةً على صوت صراخٍ وتحطيم … تعودت على نوبات جنونه، ففي كل مرة يجلب راجح  أثاثاً جديدا ً، أوقن أن مصيره سيكون  التكسير أو الحرق… نظرات عينيه المشتعلة بالغضب، أكدت لي أنه تناول جرعة كبيرة من الحبوب الملعونة.

“قررت عدم التدخل، لكن أنين الفتاة بزاوية الغرفة نبهني لوجودها في المكان، منظرها المزري أكد لي أنها نالت من الاهانة والعنف قسطاً كبيراً”.

توقفت ساجدة فجأة عن سرد ما حصل مختنقة بدموعها.

كانت علاقة ساجدة بأخيها رفعت مميزة، فهي أخذت دور أمه بعد ان توفيت وكان بعد مراهقاً، كلنا يعلم أنها اهتمت به وسامحته مراراً وهي ليست المرة الأولى التي يخذلها فيها، ولن تكون آخر مرة يسقط فيها فخ الرعونه  والرغبات.

أخبرتني يوما ًعن ذلك الشعور الذي  ينتابها: “في كل مرة أنظر إليه أتأكد أن جوعه سيكون أزلياً”.

 ذلك النوع من  الجوع الذي بتنا نراه  في أعين الشباب في منطقتنا، هو جوع لأشياء وحاجات يصعب تحديدها، فمعظمهم لم يحظوا بفرصة التفكير بما يريدونه حقاً، ولم يتمكنوا أن يعيشوا حياتهم ويتعاملوا مع احتياجاتهم الإنسانية بشكل طبيعي، فالحرب  حرمتهم  من حلمهم  بتكوين أسرة كما  فعل أهاليهم من قبلهم، هم قفزوا فجأة من سن الطفولة الى الكهولة، كبروا قبل أوانهم ولا وقت لديهم للنظر خلفهم، فالوقت صعب والموت على الأبواب، هم عالقون في عنق الزجاجة مختنقين بين ماضٍ مليء بالتناقضات ومستقبل لا يلوح بآمال، ولكنهم لا ينتبهون بأن وجودهم في عنق الزجاجة وهم يتصارعون للخروج منها يمنع الهواء عمّن تبقى هناك في القعر، عن الضعفاء الذين لا يستطيعون التسلق.

كالعادة ما أن أفرغت ساجدة غضبها من أخيها الأصغر حتى عادت لتبرر له سلوكه: “اللي شافه يمكن خلاه  يصير هيك”.

أعود بذاكرتي الى ما قبل عشرين سنة حين كان رفعت يركض حافياً في شوارع الحارة، لم يستطع أحد إقناعه أن يلبس حذاءً كي لا تتأذى قدماه من الاسفلت المحفر والصخور، الكل كان يناديه  “ماوكلي”، ” لديه روح حرة”، هكذا كانت تقول والدته.

 فشل رفعت في التعليم وعمل في سن صغيرة عند رجال يكبرونه في السن ّكثيراً،  كان ينتقل من عمل الى آخر تاركاً الحياة تصفعه بقوة كل حين،  وفي الثامنة عشر اقتيد للخدمة العسكرية، فبقي يهرب ويعاقب، ثم يعيد الكرة. في المرة الأخيرة التي دخل فيها السجن بسبب فراره من الجيش عوقب بشدة وبقي لأشهر عديدة دون ان يعرفوا مكانه: “عندما خرج كان شخصاً آخر، وجه ماوكلي البريء والحر تلاشى ليصبح وجه رجل نهم لكل شيء”، تشرح ساجدة.

“قد ما كنت خاف عليه، صرت خاف منه!” تنهي ساجدة حديثها وتمسك يدي، اسألها: “إلى أين؟”

“الآن ستعرفين”، تجيبني ونحن نمضي باتجاه المنطقة الصناعية البعيدة، حيث تسكن فاطمة، البنت التي كانت مع رفعت في بيته والتي كادت تكون ضحيته لولا ساجدة.

فاطمة صبية في بداية أول عشرينياتها، تعيش مع أختها وبعض النساء العازبات في منطقة لتصليح السيارات من بلدتنا، وهي لم تكن لتستقبلنا أو تحدثنا بشيء لولا وعد ساجدة لها بمساعدتها.

كانت آثار الكدمات لا تزال بادية على وجهها النحيل، أخبرتنا أنه بعد فقدانها لعائلتها في الحرب، هربت مع أختها والكثير من الناس بلا وجهة معينة، قالت لنا: “أمي كانت معلمة وأعرف أن روحها غضبانة عليّ، لكن الأمر لم يكن بيدي ولا بيد أختي، لقد أجبرونا في البداية على النوم معهم، ثم فيما بعد بدأوا يتاجرون بنا، كانوا يعطوننا بعض المال القليل كل مرة وهو بالكاد يسد رمقنا، ويذكروننا أنهم هم من يدبرون لنا مسكناً وإلا بتنا في الشوارع .

كانت اختها الأكبر تجلس صامتة على الأريكة، تستمع للحديث دون أي تعليق، وتشغل نفسها بتمشيط شعر طفلتها التي جلست أمامها مستسلمة، لكنها فجأة راحت تضع الماء على أصابعها وتجدل خصلات الشعر الطرية بعنف شديد فيميل معه رأس البنت بشدة للخلف، فتغمض الصغيرة عينيها من الألم دون أن تنبس ببنت شفة.

غمزت الأم بعيني إشارة الى ان الصغيرة يجب أن لا تستمع للحديث، وصدمني جوابها حين قالت: “هالبنت شافت وسمعت أشياء لا يتصورها عقلك”.

عينا الطفلة كانتا تائهتان حد الضياع، فهي كما علمت لم تعرف من هو والدها، ولم تحظى حتى الآن باسم على دفتر عائلة أو في أي وثيقة رسمية!

أكملت فاطمة باكية: “أول شغلة عملها (المعلم) هي إنه كسر هوياتنا، يعني نحنا  صرنا ولا شي، وهيك  كل يوم  منلتقي مع رفعت جديد”.

احداهن روت بأن المعلم في البداية هددها بان يسجن اخاها ويقتله وبعدها صار يهددها بإرسال صور وفيديوهات مع عنوانها لأخيها نفسه لكي يقتلها.

 استمعنا أنا وساجدة لقصص مرعبة منهن عن نساء أخريات خانتهن الحياة وفقدن الأمل بوجود أي حل آخر، فوجدن انفسهم محشورات في عنق الزجاجة.

في طريق عودتنا كنا ثقيلتين وكان الهواء يتلاشى من أمامنا حين تظهر كل حين لافتات مكاتب “بيع العقارات” أو “بيع الأثاث المستعمل”  أو “بيع السيارات”، كيف لم ننتبه الى تكاثرها كالسرطان حولنا؟ ألم يكن هنا فيما مضى  مكتبات ومحلات بيع ملابس  وألعاب الأطفال؟

بعدها وفي طريقي لبيتي توقفت امام مكتب “تأجير السيارات” الذي ذكرت فاطمة بأنه يتاجر بهن،  لطالما مررت من هنا ولم أكن أتخيل أن يكون مكتباً لتجارة الرقيق الأبيض، هو ليس المكتب الوحيد في بلدتنا الصغيرة وفق ما قالت فاطمة.

بعد يومين، كنا خلالهما نفكر أنا وساجدة بماهية المساعدة التي ممكن أن نقدمها لفاطمة وصديقاتها ولم نخرج ولو بفكرة بسيطة سوى أن ندعمهن معنوياً بالزيارة على الأقل، عدنا هناك وكان المكان فارغاً، وعند السؤال أكد لنا بعض الصبية في المكان  أن سيارة فخمة أقلتهن مع أغراضهن  لمكان بعيد.

أسابيع مرت  قبل أن يوقظني صوت ساجدة الهلع، كانت تدعوني لأرى ما يحصل في ساحة البلدة، عشرات الشباب ومعهم رفعت  يلوحون لنا  مودعين  من نافذة الحافلة المتجهة غرباً، كانوا شباباً بعمر الورد تمت الموافقة على أسمائهم بعد أن وعدهم بإسقاط أي تهمة عنهم إن كانت أمنية أو جنائية وتسوية أوضاعهم  بالنسبة للخدمة العسكرية، ليتم بعد ذلك تسفيرهم إلى ليبيا ليحاربوا هناك مقابل أجر مغري.  

صرخت ساجدة لرفعت بعلو صوتها باكية: “ليش لتبيع حالك هيك؟”

لكن الحافلة كانت تبتعد عندما وصلت آخر كلماته: “ماعاد في حل، لازم ترتاحي من همي”.

ولا زلت وساجدة ندور حول السؤال عن مصير فاطمة وأختها وصديقاتها اللواتي كسرت هوياتهن وعن كل النساء اللاتي لا يملكن أي خيارات، ولازالت مكاتب السيارات والأثاث المستعمل والتجنيد تبيع الرجال والنساء في بلدتنا الصغيرة،  وفي كل أسبوع وعندما تنطلق حافلة فيها شباب تنزع عنهم هوياتهم مقابل رقم معدني يعلق في رقابهم كالعبيد، نقف أنا وساجدة هناك في أسفل الزجاجة مختنقتين بلا هواء بينما هم وهن عالقون في عنق الزجاجة عاجزين عن الخروج أو العودة إلينا.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »