Search
Close this search box.

أمراض على الهامش

أمراض على الهامش

دلال عبدالله

لم تكن أخبار الإصابات المتزايدة في سوريا اليوم تزعجها، وتجعلها تضرب كفاً بكف؛ على الحال الذي وصلت إليه الأمور بسبب فايروس كورونا، والأرواح التي حصدها حول العالم، فجعل الخوف يتخذ أشكالاً أخرى، خوف من الموت وخوف من الحياة.

صور المشفى وتحاليله واضحة هذه المرة أيضاً، لقد عاد الورم إلى مثانتها، كانت سعاد قد خضعت لسلسلة من الفحوصات والتحاليل قبل عدة أشهر، انتهت بإجراء عملية تجريف له، وأكد الأطباء أن العملية كانت ناجحة تماماً، لكنها مضطرة لإجراء المزيد من الفحوصات كل عدة أشهر، للتأكد من أن الورم لن يعود.

كان القلق يساورها، وهي تتذكر الآلام التي عانتها قبل وبعد إجراء العملية، فهي لا ترغب بتكرار تلك التجربة المزعجة، وها هو الجسم الغريب يعود ليعلن عن وجوده، وهي تتخيله هذه المرة على هيئة فايروس كورونا، الذي انتشرت رسومه وصوره على مواقع التواصل الاجتماعي، ملتصقاً بجدار مثانتها، لكن تركيزها منصب على الوضع الذي عليها مواجهته في اليوم التالي، والتغلب عليه للمرة الثانية.

لم تكن الصعوبة هذه المرة في العملية بحد ذاتها، بقدر ما كانت في البحث عن مكان مناسب لإجرائها، فالمشافي في العاصمة كانت قد أعلنت أنها لن تستقبل في غرفها، إلا الحالات المتعلقة بفايروس كورونا، وهي مثل كل السوريين، لا تثق بإمكانية هذه المشافي على الحيلولة بينها وبين انتقال العدوى إليها، فيما لو غامرت وقررت إجراء العملية في إحداها، فالإجراءات المتبعة فيها للحد من انتشار المرض شكلية، لا تتعدى قياس الحرارة، وتعقيم المقاعد المخصصة للمرضى بين فترة وأخرى، إضافة إلى فرض ارتداء الكمامة الواقية قبل الدخول إليه، لكن جدار الحماية داخل المشفى منهار تماماً.

لكنها مع ذلك خاضت تجربة أن تذهب للمشفى عدة مرات لعمل التحاليل والصور اللازمة، وفي النهاية عثرت على مشفى خاص ومضمون، على حد تعبير طبيبها، لإجراء العملية.

كانت مخاوفها تزداد مع كل يوم تسمع فيه ازدياد عدد الإصابات، لكنها اليوم هادئة تماماً، تجلس وجهاً لوجه مع حالتها هي، ووضعها هي، وتفكر أن الأمراض الأخرى تنحّت، والآلام الأخرى لم تعد ذات أهمية؛ حين توحد كل الناس على مواجهة ألم واحد، وطريقة موت واحدة.

فكرت بعدد الأشخاص الذين يعانون من أمراض أخرى غير كورونا، وتجعلهم يحتملون آلامهم بصمت، فكرت بالنساء اللواتي يعانين في كل شهر من آلام العادة الشهرية، ويخفين ألمهن لأن من المعيب التصريح عنه، أو اعتباره ضمن قائمة الأمراض المتعبة.

لم تدرك سعاد أن أفكارها أخذتها بعيداً، حين قلبت في رأسها آلام النساء في بلادها، من اكتئاب ووحدة وعنوسة، وفقر للحب تماماً كالفقر للمال، واختبار لكل أنواع الاضطهاد النفسي والجسدي، لأن المرأة هي الخطيئة التي لا يمكن التكفير عنها في المجتمع، إلا حين عاد بها ألمها واضطرها لدخول الحمام، نتيجة ما تشعر به من حرقة في أسفل بطنها، تلك الحرقة التي تشبه كومة من الجمر، تحت معظم النساء، يستشعرن بها عذاباتهن الكامنة؛ في أمراضهن الخفية والعصية على الوضوح، من بواطن المناطق الحساسة في أجسادهن.

لم تكن لحظة دخولها إلى غرفة العمليات في اليوم التالي غريبة عنها، فهي تدخلها للمرة الثانية، لكن إحساسها اليوم مختلف، كانت تجر وراءها فكرتين، مرضها وفايروس كورونا.

تراقب بصمت طبيب التخدير الذي يتحدث معها دون أن تسمعه، وثوب العمليات الأبيض وتفكر، أصبح العالم سجناً للأجساد المتشابهة، التي ترتدي الخوف من هذا الفايروس، والأبيض سجن للأجساد المتشابهة التي ترتديه في غرف العمليات، لكن أجساد النساء في هذه البلاد، تحمل أمراضاً مختلفة، ثم تغيب عن الوعي.

بعد ساعة، كانت تحاول جاهدة رفع جفنها الثقيل، الذي يغلق مساحة الرؤية، لتجد نفسها مع إخوتها في غرفة بيضاء، وملاءة بيضاء، وأنبوب يتدلى من بين فخذيها، تملأه سوائل حمراء.

تمت العملية بنجاح مرة أخرى، هكذا أخبرها طبيبها، لكن عليها معاودة الفحص كل عدة أشهر، للتأكد من عدم عودة الورم.

شعرت بالتعب والضعف، رغم ما يبعثه الخدر في جسدها من كسل لذيذ، كل الناس ضعفاء في مواجهة من هم أقوى منهم، سواء كانت القوة تتمثل بالبشر أو الأمراض، أو حتى الفيروسات، لكنها أرادت أن تتماسك، أرادت أن تثبت أنها قوية أيضاً، رغم الألم الذي عاد ليثبت وجوده مع كل لحظة تأخذ معها مفعول المخدر وهي تبتعد.

كانت أفكار سعاد خلال فترة تعافيها تدور حولها فقط، لكنها مع أول لحظة مرت بدون ألم جسدي، عادت لتتابع أخبار انتشار الفايروس في البلاد، وتزفر بحسرة على حال الناس، وما يعانونه نتيجة لذلك، خاصة النساء اللواتي يواجهن آلامهن بصمت.

اللوحة للفنان “أسعد فرزات”

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »