عبير محمد
قال لها “سأذهب إلى ليبيا”، سألته: “بأي صفة؟”، أجاب “مرتزق”! فهل يمكننا تصور الظروف القاهرة التي دفعت بفئة كبيرة من الشباب لتقذف بأرواحها في لجة حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل, هرباً من واقع كارثي لا يحمل في طياته أي مستقبل لهم ولأسرهم, شباب تخلوا عن هوياتهم بالانتماء ليحملوا هوية المرتزقة.
فبعد استباحة الجسد السوري, أضحى شبابه إما لاجئين, أو قضوا في حرب لا تزال رحاها تدور. ومن تبقى منهم كان نصيبه القتال في بلد آخر مقابل مبالغ لا يحلمون بها في بلدهم الفقير, حيث تم سوقهم إلى دولة تعاني الويلات, واستئجارهم كمرتزقة في حراسة آبار النفط في ليبيا, التي امتلكتها روسيا، والقتال في صفوفها دفاعاً عن هذه الآبار.
روسيا ذلك الحلم البائس لشبابنا, من شروطها لأجل تطويع الشباب, أن يكونوا بصحة جيدة, لذلك هي تجري لهم كافة الفحوصات الطبية لتضمن سلامة بضاعتها.
ويأتي دور تركيا في تجنيد السوريين لصالحها على الطرف الآخر.
فغدا الشاب السوري سلعة مرغوبة ومأجورة في ساحات القتال, رأسماله عبر 9 سنوات مهارته وتفننه في قتل أخيه السوري.
وفي أي صراع يكون دائما للمرأة نصيب كبير من المعاناة. فأضحت الزوجة بغياب زوجها تحمل العبء الأكبر من مسؤولية البيت والأطفال. بالإضافة للوعة الفراق. كما للأم حصة من هذه اللوعة, حيث تنتظر عودة أبنائها بترقب وخوف.
كالشاب العشريني الذي تطوع للذهاب إلى ليبيا, لينقذ حياة أمه من الموت لأنها كانت بحاجة لإجراء عمل جراحي باهظ التكاليف, لكنه توفي هناك وبقي جثمانه في ذلك البلد البعيد, وحالما سمعت الأم بوفاة ابنها وافتها المنية لتلحق به، وتم تعويض العائلة ثمن دم ابنهم.
أما سميرة فقصتها تختصر الحكاية السورية، حيث كان أحلامها بسيطة مثل أغلب البنات, زوج وأولاد وحياة مستقرة، فتحقق حلمها وتزوجت, وعاشت هي وزوجها سنة دون أي صعوبات، ثم تغيرت أقدارها، مع بدئ الحرب، كانت سميرة وقتها تعيش في منطقة عدرا العمالية إحدى ضواحي دمشق هي وزوجها, وعندما دخل فصيل جيش الإسلام بقيادة زهران علوش إلى عدرا تم أسر سميرة مع زوجها, واقتادوها هي ومجموعة نساء أخريات إلى مستودع بينما أخذوا زوجها إلى مكان آخر. ولم تعد تسمع عنه شيئاً حتى هذه اللحظة.
بعد سنتين من الأسر خرجت سميرة وعادت إلى أهلها آملة أن تجد زوجها، لكن دون جدوى. بعدها اعتبر زوجها شهيداً ووثقوا وفاته في دائرة النفوس.
بعد مضي سنتين على هذه الحادثة, تزوجت سميرة من رجل آخر, وأنجبت منه ولدين. لكن أحد ولديها أصيب بمرض خطير, واحتاج لعملية نقي العظم خارج سوريا، وكانت العملية مكلفة جداً، فقرر زوجها الذهاب إلى ليبيا لتأمين عائلته، وإنقاذ ابنه الصغير.
بقيت سميرة هي وولديها، منتظرة المجهول لا تعرف ما قد يحمل لها, وهي التي واجهته سابقاً, فكيف ستواجهه الآن وروح زوجها وابنها, في طي هذا المجهول .
عاشت سنة كاملة على أمل عودة زوجها, بينما كان هدف الزوج البقاء فترة طويلة من الزمن لتأمين المبلغ المطلوب, وحدثت الفاجعة, لقد توفي الزوج وأصبح المجهول الذي انتظرته سميرة كابوساً لا ينتهي. وبقيت مرة أخرى لوحدها مع طفلين لا حول لهم.
استلمت تعويض زوجها الذي كان لا يكاد يفي باحتياجاتهم اليومية لمدة زمنية قصيرة. ومازال الطفل ينتظر المنقذ, ولازالت سميرة, تترقب المجهول.
أما فريدة, فقد كانت ظروفها أخف وطأة من سميرة. فهي متزوجة ولديها أربعة أولاد, وكان زوجها عامل بناء بسيط, وهي تعمل في مصنع للغزل, بشروط مجحفة. حيث تعاني من ساعات العمل الطويلة, والأجر الزهيد.
كانت تبكي طويلاً وأحيانا تنهار بسبب ضيق الحال, وتقول بأسى: “نخاف أن نمرض, فلا نستطيع الذهاب للطبيب, لأنه سيطلب منا إجراء تحاليل, التي تفوق قدراتنا المادية”.
وفي يوم وأثناء عودتها من عملها, بالكاد تجر قدميها, وعيناها على وشك السقوط نحو الأرض, اقتربت مني بابتسامة فيها استهزاء ونقمة على كل شيء وقالت: “بحياتك لا تتجوزي فقير ومعتر, لأنك بالأخير إنت اللي رح تعيلي فيه مو هو”.
وأتت الفرصة التي تنقذ فريدة وأسرتها من هذا الفقر فاعتبرتها الفرصة الذهبية، عندما دعت زوجها وابنها لكي يلتحقا بالبقية, وبقيت هي وأطفالها بنفس الشقاء ونفس العمل. حتى عاد زوجها وابنها بعد عام, حاملين أموالاً تكفيهم للعيش, وتنهي شقاء فريدة بالعمل، وتغلق الباب على عمر طويل من الفقر والحاجة, والعمل بظروف غير صحية لها ولأولادها.
بنفس الظروف هناك فتاة تزوجت حديثاً بعد علاقة حب طويلة ليغادرها زوجها وهي مازالت عروس, لأجل بناء منزل الزوجية. فبقيت وحيدة, في منزل ظنت أنها ستملؤه مع زوجها بصراخ صغارها وضحكاتهم. ليأتي صدى الجدران خاوياً إلا من الإنتظار.
أما الفتاة الحسناء وتدعى آلاء، انتظرت حبيبها سنوات, لكي يتقدم لخطبتها, على الرغم من معرفتها بأن هذا الحبيب لا يملك في جيبه سوى بضع ليرات، وأن مشروع الخطوبة قد يكون ضرباً من المستحيل في هذه الظروف. أحبته منذ سنوات الدراسة الأولى, ليدخلوا نفس الكلية ويبقوا معاً. وعندما سمحت له الفرصة للسفر مثل غيره من الشباب إلى ليبيا, طلب منها انتظاره، فرفضت ذهابه, لكنه أصر, عندها استسلمت لقراره، وهي تعلم بأن القدر يلعب معهم لعبة قد لا تكون نتائجها بالحسبان.
هذه حال نساءنا في سوريا, فمن لم يمت زوجها أو ولدها في بلده, مات على مشارف دول أخرى, ماضياً وراء سراب اسمه تأمين لقمة العيش. فإذا به يفقد هويته كإنسان ثم يفقد انتماءه كسوري.
وتبقى المرأة تنظر للبعيد, على أمل أن تسترد حلمها بحياة خالية من التشرد والفقر, وأن تعيش مع أسرتها في عالم يؤمن بأن متطلبات الحياة هي من ضمن الحقوق الطبيعية للإنسان.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”