قصة من درعا
نهلة حوراني
منذ ان توقفت الحرب في مناطقنا، أو لنقل جرت اتفاقيات مصالحة أدت الى وقف اطلاق النار، بدأت الكثير من العائلات بالعودة الى بلدتنا، تسع سنوات مرت جربنا فيها النزوح والحصار والتهجير والقصف والفقر والرعب. أراهم يحملون أجسادهم المثقلة بذكريات مريرة ويعودون، بعضهم عائدون من مناطق نزوح داخلية ومعظمهم عائدون من الأردن، واحدة منهم كانت وفاء.
بعد قيام الثورة لم يسمع أهل القرية خبراً عن وفاء وعائلتها، فقد نزحوا جميعاً الى الأردن. وكنت قد سمعت قصتها مع بعض التحريفات والتحليلات من أهل القرية، تصحبها تفسيرات للجنون الذي أصابها، بعضهم يرجعه للسحر وبعضهم للخبل الوراثي، وقلما يشار للسبب الأساسي وراء انهيارها وجنونها.
كنت عائدة من عملي عند الظهيرة وكان الحر شديداً، عندما صادفت وفاء في الشارع تهيم على وجهها، كانت ترتدي عباءة سوداء متسخة وتضع غطاء راس يكشف جزءاً كبيراً من شعرها. كان أطفال الحي يتراكضون خلفها مرددين كلمات مثل: مجنونة، مخبّلة، كانوا يسخرون منها ويضربونها بالحجارة، لتعيد إلى ذاكرتي مشاهد فيلم “توت توت” لنبيلة عبيد. نهرتهم فابتعدوا قليلاً، كانت ترتجف وبإحدى يديها تصفع وجهها وتمسك باليد الأخرى ياقة عباءتها شبه الممزقة عند الصدر. تمسكت بي فسألتها: “من انت؟”، فضحكت. توجهت للأولاد بالسؤال فقالوا إن سيارة داخلها ثلاثة رجال انزلتها ومضت مسرعة!
أخذتها إلى منزلي وحاولت معرفة اسمها، عنوان أهلها، لكنها كانت ترد على اسئلتي بكلمات غير متناسقة: أمي ماتت، أبي مات، أحمد مات … حاولت أن أدخلها الحمام وأبدل ملابسها، لكنها كانت تشد ثيابها عليها وتصرخ. اتصلت بجارتي لعلها تتعرف عليها وعندما رأتها عرفتها بعد طول تفكير … إنها وفاء!
ترتيبها الخامس بين أخوتها السبعة، ابنة عائلة تعمل بالزراعة، أصبحت عاملة ما أن اشتد عودها قليلاً. حين أصبح عمرها 13 عاماً تقدم شاب من القرية المجاورة لخطبتها، وجد والديها أن لا شيء يعيبه، فوافقا على تزويجها. وكطفلة لا تعلم شيئاً عن الزواج، فرحت وفاء ظناً منها أنها ستذهب في مشوار ممتع. بعد ستة أشهر فقط بدأت الطفلة الزوجة تتلقى التعنيف الجسدي واللفظي من زوجها وعائلته، كانت تهرب لتسأل أهلها العون والحماية وكان الجواب: “يجب أن تتحملي … هذا هو الزواج … كل الرجال يضربون زوجاتهم … على المرأة أن تصبر وتتحمل…”
بعد أشهر حملت وفاء وأنجبت طفلاً أسمته أحمد، كانت تأمل أن إنجاب صبي سوف يرفع منزلتها في البيت فيخفف من قهرها وتعنيفها، فحين رأت وجهه الصغير وداعبت يديه أحست بأنها ستنجو لأنه سيكبر وسيصبح دنياها وسندها. بعد شهر من ولادة صغيرها طلب منها زوجها أن تذهب لزيارة أهلها وقال لها أنه سيلحق بها مع رضيعها بعد أن يشتري بعض الحاجيات، لكن عند المساء حضر زوجها دون الرضيع ومعه حاجياتها، رمى عليها يمين الطلاق أمام عائلتها وركب السيارة ومضى. لا تدخلات العائلتين ولا الوساطات الاجتماعية استطاعت ثني الرجل عن قراره بتطليقها واخذ الصبي، أصلا عائلتها ذاتها لم تكن لتقبل بتربية وإطعام طفل رجل “غريب”.
صدمة لم تكن لتستوعبها طفلة الأربعة عشر عاماً ونصف. بقيت عيناها معلقتان بخيال زوجها الهارب هناك أمام البيت، يهيء لها أنه يناولها رضيعها ملفوفاً ببطانية بيضاء نظيفة فتذهب لتنعزل معه في دنيا على مقاسهما وترضعه وتبني أحلاماً بمستقبل أفضل لها وله. فضلت العيش بخيالاتها للهرب من قسوة واقعها، في الصباح التالي كانت تحمل بطانية تلفها على شكل غطاء لوليدها وتمشي في الشوارع بملابس نومها، تهدهده وتغني له.
أسرع أهلها لسحبها للمنزل ثم قرروا عرضها على طبيب نفسي، أخبرهم أنها مصابة بانهيار عصبي شديد. توفيت أمها بعد شهرين تأثراً بجنون ابنتها. ومع انشغال العائلة بحزنهم على والدتها، أصبحت وفاء تخرج ليلاً، تهيم في الشوارع وتنادي باسم وليدها، فلم يجد أخوتها ووالدها حلاً سوى ربطها الى السرير واغلاق فمها بعصابة حتى لا يسمع صراخها أهل البلدة، كان جنون وفاء عاراً يساوي عار طلاقها. بعد سنوات، توفي الأب وتقاسم الأخوة البيت والأراضي ومن بين الإرث كانت وفاء، تقاسموا فترات وجودها كل شهر في ضيافة أحدهم.
كانت جارتي تقص علي حكايتها ونحن في الطريق الى بيت عائلة وفاء، الذي ورثه أخيها الأكبر. وعندما اقتربنا من البيت بدأت تمسكني وتشدني للخلف وتصرخ: “ضربوني … ربطوني…”، لكننا سحبناها من يدها وطرقنا الباب ففتح صبي في عمر الثالثة عشرة ربما، ما أن رآها حتى صرخ بها: “شو جابك؟ انقلعي … هذا الشهر الدور على بيت عمي” . طلبت من الصبي أن ينادي أمه، فحضرت المرأة وفتحت لنا الباب بتهذيب وأدخلتنا. قلت لها أني وجدتها في الشارع فأجابت بأن عليها الذهاب الى بيت خالد أخو زوجها فهو دورهم لهذا الشهر. وعندما طلبت رؤية زوجها رفضت وقالت أنه نائم، أعطتنا عنوان بيت أخيه فمضينا وقرعنا الباب، أطلت امرأة وقالت أيضاً أن زوجها نائم وأن عليها أن تذهب لبيت ناصر، فهم من عليهم الاعتناء بها هذا الشهر. عندما وصلنا أدخلتنا المرأة، كان لدى المرأة ثلاث بنات وولد مريض في الحادية عشرة من عمره، قالت لنا أنهم اصطحبوا وفاء معهم الى الأردن وقد زوجوها من رجل كبير في السن ومريض، لكنه استخدمها لمدة سنة لاشباع شهواته قبل أن يطلقها. زوجوها من رجل أخر فقام هذا بإدخالها لمصح عقلي، وعندما قرروا العودة أصر أخوها ناصر على اعادتها معهم، لكنه اعتقل على الحدود وهو مجهول المصير حتى اليوم. قالت المرأة أن همومها تكفيها لكنها تشفق على وفاء وتعرف أنها تُضرب وتُهان عند أخوتها لكنها اعتذرت عن استقبالها فالدور على أخيها خالد. عندما عدنا اليه كان قد استيقظ من نومه، وقبل أن نبدأ حديثنا معه بدأت زوجته بالصراخ على وفاء: “أين كنت؟ منذ ثلاثة أيام وأنت غائبة؟ ماذا فعلت؟”
كنت أود أن أخبرهم عن الحالة التي وجدتها بها، عن الرجال الثلاثة الذين رموها من السيارة بعد أن اغتصبوها لأيام، كنت أريد أن أقول لهم أنها تحتاج لطبيب ولدعم نفسي، تحتاج لبعض الحب، تحتاج أن ترى ابنها، وانهم يجب أن يبحثوا عن المجرمين الفالتين من العدالة والمحاسبة، عن المغتصبين، لكني خرجت بدون أن أقول شيئاً، ألن يزداد وضعها سوءاً في المعاملة إن أخبرتهم بما حدث؟ ألا يمكن أن يقتلها أحد أخوتها بدافع الشرف؟ لمن ستلجأ حينها وكيف ستدافع عن نفسها؟ لمن ألجا أنا من أجل مساعدتها ومساعدة النساء مثيلاتها؟ لا إجابات لدي حالياً وربما لن يكون لدي إجابات في المستقبل القريب.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”