دمشق – سلوى زكزك
لم يعد التدبير ممكناً! لم يعد كافياً! الفقر استوطن في تفاصيل العيش اليومي، والشكر على دوام الأحوال بات من المحال، لأن القلوب تعبت من الخوف والألسن نهشها الخرَس، ولأن الأحوال أصعب وأقسى من أن يتحملها البشر.
تنام السوريات على أرقام ويستيقظن على أرقام أكبر، إنها ليست نسبة لحياة رقمية، بل تجل واضح لتحول الرقم إلى شريك ملازم للنساء لكن في أسوأ تجلياته، الحياة ثقيلة جداً وخاصة على النساء، نساء معيلات وحيدات لعوائلهن، أو شريكات بالإنفاق والتحايل على طوفان الغلاء، وحتى الشريكات العاملات صاحبات الدخل لسن بمنجى من الخوف من الغلاء والعجز فقد باتت الحاجة أكبر من قدرة الأفراد وأكبر من طاقة العائلات على النجاة مهما تضامنت أو تعاضدت.
يبدو الغلاء وحشاً مفترساً والليرات مهما تكاثرت لا تفي إلا بالقليل من الاحتياجات، الثلاجات فارغة، وارتفاع سعر الثوم في العام الماضي حيث وصل الكيلو الواحد إلى أربعة آلاف أجبر السوريين / ات على تموين الثوم بكميات لا تفوق الحاجة للاستهلاك لكنها مكلفة، وقد يحتاج البيت الواحد لمبلغ عشرين ألف ليرة لتموين الثوم، وقفزت أسعار بعض المواد الضرورية حتى وصلت إلى أرقام فلكية لم يعتدها السوريون /ات ولا قدرة لهم على تحمل أعبائها وخاصة الأجبان والألبان واللحوم والزيت النباتي والسمون الحيوانية والنباتية معاً.
تشاركت عائلتان على طبخة واحدة، لأن كلفتها تفوق قدرة عائلة لوحدها وخرج أفراد العائلتين شبه جائعين لأن الوجبة كانت أقل من حاجة الجميع ودون خط الشبع، سيدة طلبت من جارتها كأساً من العدس للمجدرة فاعتذرت الجارة لأنها تخاف ألا تتمكن من طهي حتى المجدرة في الأيام القادمة إن خسرت كأس العدس الوحيد الذي تملكه.
بعض أكياس الخضار في أيدي النساء مشكلّة ملونة، تختلط فيها قطع قليلة العدد من كل نوع، الشراء بمائتي ليرة أو بخمسمائة أو بمائة واحدة، لم يعد الوزن هو وحدة التعامل في البيع والشراء بل السيولة المتوفرة. في بعض الأسواق الشعبية، نساء لا يحملن نقوداً، يجلن على الباعة وبأيديهن كيس يضع فيه البائع ما يقدر أو ما يرغب بالاستغناء عنه، سيدة فتحت جيب معطفها ليضع لها البائع فيها حبتين من الفلفل الأخضر، وأخرى طلبت رأسين من الثوم فمنحها البائع ثلاثة وضعها في جيبها أيضاً.
تضاعفت الأسعار مرات عديدة، ما يحصل ليس مجرد ارتفاع بالأسعار، ولا شح في المواد أو في السيولة، بل بات السوق شبحاً مرعباً تتمنى النساء أن يهاجر أو يرحل بعيداً ليحققن الراحة في نسيانه، أو أن يعاند التجار ويفرض أسعاره ليرضي رواده وخاصة من النساء.
حتى الأطفال تدربوا على كتمان رغباتهم، مستعدون لتناول الموجود ولكن بلمسة أمومية، فطور أعداد كبيرة منهم مجرد خبز وشاي رديء وسكر قليل، لارتفاع أسعار الشاي حيث وصل سعره بالجملة ومن النوع العادي إلى عشرة آلاف ليرة للكيلو الواحد، مع الإشارة إلى أن منافذ بيع المواد التموينية المدعومة قد توقفت عن بيع الشاي والزيت النباتي لعدم توفرهما، مما يعني أن الكثير من السوريين / ات سيحرمون حتى من شرب كأس شاي تحول إلى ترف لا قدرة للغالبية على اقتنائه وتناوله.
نعم تفتش بعض السوريات عن الطعام في حاويات القمامة والصور تشي بحقيقة الجوع المستفحل والمنتشر بكثرة، يبحثن في الحاويات عن الطعام أمام عيون الجميع وعلى الملأ، وليس من معين أو مانح يرفع الظلم كما الجوع عن كاهل البشر، وفي إحصائية حديثة يتم تداول أن أكثر من ثمانين بالمئة من السوريين يقبعون تحت خط الفقر.
عجزت عائلات كثيرة عن تأمين قيمة الوحدات للهواتف الجوالة كي يتمكن أبناؤهم وبناتهن من متابعة التعليم عن بُعد فخسر الأطفال والطلاب فرصة التعلم وتعويض كل ما فاتهم من جراء الإغلاق المبكر للمدارس. انخرط عدد أكبر من الأطفال وفور توقف الدوام المدرسي في الأعمال المجهدة مثل توصيل الطلبات أو صبية في ورشات الكساء أو جمع البلاستيك والخبز اليابس. وبعض العائلات أرسلت أبناءها إلى قراها كي يخف ثقل الأفواه الجائعة، لا بل إن عائلات بأكملها عادت إلى بيوت أهلها في القرى كي تؤمن قوت يومها من خيرات الأرض أو مما تبقى من مدخرات في جيوب الأم والأب اللذين ادخرا مالهما من أجل نهاية كريمة ومحترمة، لكن الحياة كانت أقسى وباتا مسؤولين عن إطعام الأبناء والأحفاد معاً.
حتى السيدات اللواتي كن يملكن عملاً خاصاً بهن مثل متجر صغير لبيع المكياج أو بيع الملابس أو العاملات في الحلاقة والتجميل والبائعات في متاجر القطاع الخاص، فقد توقفت أعمالهن ومواردهن بصورة كاملة وبتن مضطرات إما لتسليم المتاجر توفيراً لبدلات إيجارها أو الاتفاق مع أصحاب المتاجر على تأجيل الدفع مع فوائد إضافية. وكذلك حال المهندسات والمحاميات في مكاتبهن الخاصة التي أغلقت أبوابها حتى أجل غير معلوم. والمعلمات الخصوصيات ومدربات اللياقة والرياضة، أما الطامة الكبرى فكانت بتوقف العاملات المنزليات عن العمل بسبب توقف المواصلات ومنع التنقل ما بين الريف ومركز المدينة والأرياف الأخرى، وعدم رغبة صاحبات البيوت أو عدم قدرتهن على دفع كلفة وصول العاملات بسيارات خاصة.
تفاعلت أزمة توقف عجلة الأعمال والركود الاقتصادي مع هشاشة بالغة تسم أوضاع النساء بشكل عام والسوريات بشكل خاص، وكأنما تراكمت فوق الضعف المتأصل هشاشة بالغة لا تدابير مباشرة تقويها ولا حلول مسؤولة تخفف من آثارها السلبية المدمرة.
وحيدات ومعيلات، محرومات من القوة والدعم، بلا أمل والأفق غائم وضبابي، حتى خواتم الزواج باعوها بعد ما خسروا الرجال، والأيدي تطلب عملاً يبدو مستحيلاً ونادراً، بات جلياً ومؤكداً أن العنف الاقتصادي الموجه ضد النساء يتجلى بإفقار النساء، تأنيث الفقر تغييب للعدالة وتوغل في تعميم العنف وخاصة على النساء، فيصبحن موطناً للضعف ومظهراً جلياً لكل أشكال العنف.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”