Search
Close this search box.

خرجت في رحلة المجهول ولم تَعُد

خرجت في رحلة المجهول ولم تَعُد

ياسمين بنشي

“لا أريد أن أموت تحت القصف…أريد أن أموت وأُدفن بكرامة” عبارةٌ تتكرر على لسان أم حسان بعد كلّ قصفٍ على ريف ادلب حيث تقطن، لم يعد بإمكان زوجها الستّيني تحمّل هذا الألم أيضاً فالقصف ودموعها التي تُذرف باستمرار كانا كسهمين يمزقان قلبه حزناً في كل مرة.

بدآ يفكران جديّاً بالخروج نحو ملاذٍ آمن باتجاه تركيا لكن أبناءهم المتناثرين في أصقاع الأرض كانوا يرفضون دوماً خشيةً عليهم من مخاطر طُرق التهريب ووعورتها، إلى أن قررا الخروج دون إعلام أحدٍ بذلك باستثناء ابنتهم الصغرى الأرملة التي فقدت زوجها بسبب القصف أيضاً وتقطنُ في تركيا حديثاً.

كان المهرب وبعض المسافرين أيضاً بانتظارهما على أطراف القرية حين وصلا يترنحان من التعب…

المهرب: ما بالك يا حاج لم نمشي بشكل جدّيٍ بعد وبدأت تتعب!

أبو حسان: هوّن عليك قليلاً… فأختك أمُّ حسان لا تستطيع أن تمشي بسرعة

المهرب: يجب أن تسرعوا حتى نتمكن من الدخول إلى تركيا قبل المساء

أبو حسان: إن شاء الله سنبذل قصارى جهدنا

مَشَتْ المجموعة برفقة المهرب ساعاتٍ وساعات، أكثر من خمسةِ كيلو مترات في الطرق الطينية الوعرة وبين الأماكن الخطرة تحت زخات المطر التي كانت تشتد كلما طال الطريق بهم إلى أن قرر المهرب التوقف والالتفاف للعودة، فالظروف حسب تقديره لم تعد مناسبة ولن تساعدهم في الدخول.

أصرّ أبو حسان على إكمال الطريق وزوجته لكنّ مسؤول الرحلة رفض ذلك لاشتداد وعورة الطريق بالوحل والطين الذي سببه المطر، وقال للمجموعة “من يريد أن يكمل فليكمل على مسؤوليته ومن يريد العودة فليرجع برفقتي” عاد الجميع أدراجهم إلا الزوجان الكبيران المتعبان قررا اكمال طريقهم بأنفسهم فهما لا يُريدان العودة والموت تحت القصف بالبراميل والقذائف، وما إن أكملا مشيهما قليلاً حتى أُنهكا من التعب ووجدا نفسيهما في منطقةٍ مهجورة خاليةٍ من البيوت أو السكان، جلسا يلتقطان أنفاسهما المثقلة بالخوف والإجهاد خاصة أم حسان التي لم تعد تستطيع الوقوف على قدميها، مرت الساعات وأم حسان يزداد ألمها الجسدي من شدّة آلام قدميها والنفسي من كثرة التفكير بالمجهول فماذا سيحلّ بحالها وزوجها؟ ما هو مصيرهما؟ هل سيموتان في تلك الأرض المُقفرة؟

جلسا لساعاتٍ طويلةٍ يبكيان، اختلطت الدموع الحارة بقطرات المطر الباردة والندم يطوّق عقلهما لأنها خرجا بدون رضا أبنائهم، بدأ كلّ منهما يُقبّل يدّيّ الآخر ويطلب السماح، أم حسان “سامحني يا زوجي الحنون فلن أستطيع أن أطبخ لك الطعام الذي تُحبه، سامحني إذا جعلتك تغضب مني يوماً، سنجتمع سوياً يوم القيامة” وأبو حسان يبكي ويبادلها العبارات ذاتها ويفكر كيف بإمكانه السير نحو الشرطة التركية لمساعدة زوجته… وبينما هما غارقان في وداع بعضهما البعض يمرُّ رجلان أحدهما يعرف أبو حسان جيداً فهو جاره في الحي ويسأله عن سبب وجوده وزوجته في ذلك المكان… فيخبره أبو حسان ما جرى معه وزوجته بكافة التفاصيل فيطلب الرجل منه أن يرافقه وصديقه لتخطي الجدار والوصول إلى الحاجز التركي كي يتمكن من إحضار المساعدة لأم حسان…

وافق الزوج المُنهك بعد رؤيته لحال زوجته المُزرِ تحت المطر الغزير، ودّعها متألماً خائفاً ووعدها بالعودة لمساعدتها كما طلب منها ألّا تنحرك من مكانها كي لا يُضيعها،  وبعد أقل من ساعة استطاع الرجال الثلاثة تجاوز الجدار، ترك الرجلان أبو حسان وحيداً لأنهما لا يريدان أن يُسلما أنفسهما للشرطة التركية فهما يريدان الذهاب والاستقرار في إحدى الولايات.

ذهب أبو حسان إلى الحاجز ليخبر الجندرما (الشرطة التركية) عن زوجته التي غادرها في مكانٍ موحش فاعتقلته العناصر وهو يحاول بلغته العربية أن يشرح لهم… لكن دون جدوى فحتى لو فهموا ما يقول فلن يُصدقوا روايته.

بعد يومين من إعادته وترحيله إلى سوريا حيث كان… ذهب إلى المكان الذي ترك به زوجته فلم يجدها، أخبر أبناءه جميعاً الذين جاء قسمٌ منهم للمكان على الفور للبحث عن أمّهم فلم يجدوا لها أثر، ولسان حالهم يقول أين اختفت أمي؟ أين ذهبت ومَشت؟ وأبو حسان يضرب على وجهه ويقول لقد تورمت قدماها من المشي فلم تعد تستطيع الحركة فمن أخذها من مكانها؟

أكثر من أسبوع وأبو حسان وأبنائه وأبناء حيّه يبحثون في تلك المنطقة للعثور على أي علامةٍ تَدلُّ على مكان أمّ حسان دون فائدة.

ثلاثة أعوامٍ على اختفاء أم حسان دون معرفة مكانها أو حتى مصيرها، تقول ابنتها الصغرى حنان: “فقدت زوجي فكان ألمي كبيراً لكنّ ألمي بفقدان أمي كان أعظم وأشدُّ وقعاً، فأنا أعلم مصير زوجي وأعلم أين دفناه، لكني لا أعرف مصير أمي الحنونة، هل هي على قيد الحياة أم ميتة؟ وإذا كانت ميتة فأين دُفنت؟ أُريد أن أرى قبرها”

مآسٍ مروّعة طالت السوريين في كل مكان كانت هي الثمن الباهظ للحرية والكرامة التي خرجوا لأجلها أو حين حاولوا البحث عن مكانٍ آمن، لم يُفرق الظلم والانتهاك بين كبيرة وصغيرة حيث كانت النساء والأطفال أكثر من دفع فاتورة تلك الثورة الدامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »