Search
Close this search box.

شارع الدُّمى

شارع الدُّمى

منتهى شريف

أطلَّ كنان من نافذة بيته الضيقةِ ليتفقد الصَّباح. أصوات تلاميذِ مدرستنا المجاورةِ لبيته ملأُت أُذنيه، فبدت وكأنها تقض مضجعه وتثير داخلهُ الكثيرَ من الهواجس. على الرغم من أنه في عمر تلاميذ مدرستنا إَّلا ان عالمه يبدو مختلفاً تماماً.

رأيته يوم أمس ينظر إليهم وهم يتراكضون ضاحكين خلف كرة مطاطية صغيرة، كانت عيناه مثبتتان على الكرة التي كانت تنزلق بخفة بين أرجلهم الصغيرة. ما أن سمع الأطفال صوت الجرس حتى بدأوا يتدافعون للدخول إلى غرف الصف تاركين الكرة المطاطية وحيدة. رأيته يقفز فجأة الى الباحة باحثاً عن الكرة، متجاهلاً صراخ أختيه اللتان تطلبان منه الإسراع للذهاب للعمل.

أكملَ بحثهُ دون اكتراث إلى أن وجد ضالتهُ بينَ حجارةِ الطَّريق، وها هي الكرةُ تتشقلب أخيراً بين راحتيه وقد أثمر وجودها ابتسامة ساطعة غيرت ملامح وجهه المتجهمة.  

 راح يراقصها بكل ما أُوتي من شَغف، ومثل بطل عالمي رفعَ الكرةَ للأعلى بكف يَده، ونظر بِطرف عينهِ إليها مبتسماً، وكأنه يعدُها أن يجعلها  تقبِّل الشَّمس، ثم سددها بقوة  بقدمه الصغيرة.

 راقبتها معه وهي تَصعدُ عالياً وبعد بضع دقائق اختفى من مجال نظري، لكني أستطيع تخيل ما حصل فيما بعد  من خلال ما روي لي عن الصبي المتسول الذي ألحق الضرر بسيارة رجل غني من حيينا، لم أعرف اسمه، فقد أطلق عليه الجميع لقب “الصبي المتسول” دون إبداء أي اهتمام بمعرفة اسمه الحقيقي.

بدا الصبي وكأنه  يسمع  صوتُ الجمهور  يهلل له، لكن صوت أخواته أيقظه من غفلته فسارَ مَعهُم، تاركاً الكرةَ تَسقُط بِحريَّةٍ حيثُ تشاء. حمل علبةَ من البِسكويتِ الرَّخيصِ وبدأ مثل كل يوم مشوارَ التسول المُبطن معَ أُختيه. 

مِنذُ قُدومِهِم للبلدةِ مع أسرتِهِم هاربينَ منَ الحَربِ، طوقهم الفقرو العوز، فالأب مريض وبحاجة للدواء والأم تجلس بجانبه بلا حيلة، لم يكن لدى الصغار فرص عمل إلا التسول عبر بيع المناديل والبسكويت الرخيص. أبعدتهم الحرب سنوات عن المدرسة، وأصبح من الصعب عليهم الالتحاق بأقرانهم فكان العمل من نصيبه وأختيه المراهقتين..

صادفتهم قبل أسابيع من الحادثة وحاولت إقناعهم بالالتحاق بالمدرسة، وشجعتهم من خلال طرح حلول لمشكلتهم، أنا نفسي لم أكن متأكدة بأنها مجدية، حيث يمكن أن يكون العمل مساءاً أو في أيام  العطل، لكنه هز برأسه قائلاً : “خلص راحت علينا”، وعلى الرغم من تأكيدي لهم أنني سأقدم لهم كل المساعدة بالدراسة، لكن يومها صدمتني القسوة في عينيه وإجابته المؤكدة حين قال مبتعداً :”المدرسة مو إلنا “!

كنت أراهم كل  صباح وهم  ينتشرون في الشارع ويمشون بدون خوف بين السيارات غير آبهين لصراخ السائقين وشتائمهم، يمرون بين جموعِ النَّاس يتسولونَ العطفَ ويَستقطبونَ اهتمام المارة بعبارات مكررة خالية من المشاعر.

لكن يبدو أن الأُموُر بدأت تزداد صُعوبة ، وكلَّما كبُرت الفتاتانِ أصبحُ الأمرُ أكثر تعقيدا بالنسبة لهم، و”الصبي”  لم يعد يستطيع غضَّ النظِر عن تحرشات الرِّجال بأختيهِ.

وهذه المرةُ بدا مستعداً للمعركة، فما إن لمحَ  يدَ السَّائقِ  تمتد على خد أخته، التي صاحت مستنجدة وهو يفاوضها على شراء العلبة، حتى هجمَ عليه وبدأ يركُل سَّيارته بحذائه المهترئ فتمزق نتفاً، وازداد غضبه عندما رأى أخته تبكي، فأمسكَ حجراً ورماهُ بكل قوته باتجاه السيارة التي تناثر زجاجها وصراخ صاحبها.

توقفت السيارات وعلت الزمامير، وجميعُ من بالشَّارع وقفوا يتفرجونَ وكأنهُم دُمى لا تتحرك على الرجل الراقي الذي كان يصد هجوم “صبي متسول عنيف”.

هرب كنان مسابقا الريح خوفاً من عقوبة السائقين والناس الذين استشاطوا غضباً وبدأوا صراخاُ جماعياً عليه.

كان يستمع  لأنفاس أختيه الراكضتين خلفه وهما تبكيان،  وما إن وصل إلى مدخلِ البيت ِحتى سمعَ أصوات السيارات تلاحقه فركض سريعاً واختبأ عند سور مدرستنا وعندما بدأ التلاميذُ بالانصراف، دخل خلسةً واختبأ َخلفَ أحدِ الأبواب الداخليَّة.

سرحَ نظره للحظات مع ضفائر الفتيات المتدلية وأحذية الفتيان وانتبه لحذائه المتقطع  فأمسكه ودأب محاولاً إصلاحه وما هي إلا دقائق حتى سمع  صوت الباب يغلق بالقفل.

حاول أن يصرخ لكنه أخرس صوته خوفاً من العواقب، وتساءل مصدوما ً: ماذا عساه ُيفعل الآن؟ وكيفَ سيخرجُ من هذا المكان بعد اليوم؟ أمسكَ  تلابيبِ روحهِ مفزوعاً، وهو يَتخيل الليل الذي سيحلُّ عليهِ وحيداً هناك.

أخيراَ يبدو أنه قرَّر أن يتفقد المكان لعلهُ يجدُ منفذاً يَخرجُ منهُ، فدَخلَ الُّصفوفَ فأحصى النوافذ التي كانت  عالية جداً، وتسائل ساخراً كيف يمضي هؤلاء الاطفال وقتهم داخل هذه المقاعد الضيقة؟ وكيف يضيعون وقتهم بالنظر بسذاجة للسبورة، تاركين الشوارع والسماء الواسعة؟

بدأ الوقت يمرُّ عليه  ببطئ شديد، أقدامهُ المتعبة، أدخلته لتلكَ الغرفةِ في الطَّابقِ الأرضي، كانت مليئة بالرسومِ  وبعرائسَ معلقةً بخيطان، أدهشه ذلك العالم المختلف، فاقترب ليزيح الستارة ووقف على خشبة المسرح الصغيرة. نظر لدُمية القزم الصغير التي أثارت بنظراتها الساخرة فضوله ثم وضع على وجهه قناع سبايدر مان وبدأ يتحدث عن بطولاته أمام جمهوره المتخيل. ثم وضع تاج الملك وحمل الصولجان، وصرخ بشجاعة معلناً وقف الحرب وفتح كل المعابر أمام الناس.

جاب بخياله المدن والقرى مع بابا نويل وأطعم كل الجياع وقدم للصبية كرات بلاستيكية كثيرة وأنقذ مع روبن هود كل الأطفال المشردين وصفع بقوة السائق الوقح، بعد ذلك صنع شخصيته التي كان هو بطله ممسكا آخر الحبال  بإتقان .

في صباح اليوم التالي كان الجميع  يبحثون عن ” الصبي المتسول العنيف” الذي اختفى بعد أن ألحق الضرر بسيارة فاخرة، وكانت أصوات أختيه ووالدته تصرخ باسمه في كل مكان :

ـ ” كنااااان!”

 لكن بلا جدوى، فهو لم يسمعهم، لأنه كان يغط في نوم عميق بين الدمى الدافئة التي أفلتت من حبالها على مسرح لم يشاهده أحد منذ زمن طويل.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »