Search
Close this search box.

أحلام مبتورة

أحلام مبتورة

أنصاف نصر

عانى الشعب السوري بمختلف فئاته على مدى تسع سنوات في أتونِ حربٍ شنها عليهم نظام متمرس في القتل والإجرام طيلة سنوات حُكمه، فقد تفنن في قتل الشعب السوري بقصف المدن والبلدات السورية بكافة أنواع الأسلحة ولم يوفر حتى الأسلحة المحرمة دولياً وعلى رأسها السلاح الكيماوي.

لكل بيت سوري قصة عندما تسمعها يخالجك إحساس أنك تشاهد فِلماً من الخيال المرعب لكن بالنسبة للسوريين كانت هذه حقيقة مرة عايشوها على مدار اليوم، من قصص القتل والقنص والتعذيب في المعتقلات حتى الموت والبراميل المتفجرة التي تحيل البيوت بساكنيها الى ركام.

فقتل من قتل، والذي كتبت له النجاة يمكن ان يخرج مبتوراً أو مصاباً بإعاقة مدى الحياة، وقصة “لَيال” هي واحدة من مليون ونصف إعاقة دائمة تسبب بها نظام الأسد لفئة سوف تظل تحمل تبعات هذه الإصابة مدى الحياة.

“ليال قدورة” ابنة الخمسةِ وثلاثين عاماً ذات العينين الزرقاوين والبشرة الناصعة البياض والشعر الأشقر، حدثَ  – وفي ومضة ليل – أن حولّها إحدى براميل النظام إلى شخص مكسور من الخارج والداخل مع العلم أنها أم لخمسة أبناء ثلاثة بنات وولدين.

في العام 2014 من الشهر السابع وفي الساعة الواحدة والنصف ليلاً كانت “ليال” وأفراد أسرتها وبينما هم في عتمتهم ينتظرون وصول التيار الكهربائي، كانوا على موعد مع براميل النظام التي تهوى موت السوريين تحت جُنح الظلام كجريمةٍ لا يمكن ملاحظتها وكهدفٍ استراتيجي يُحرّم فيه على الضحايا لملمة حتى أشلائهم وأشلاءَ أطفالهم في الليالي الحالكة.

 قصف النظام المنطقة السكنية التي تقطن فيها “ليال” في حلب وهي حي “الكلاسة” فكان نصيب بيتها برميلٌ هدّم البيت فوق رأسها ورأس أطفالها، في تلك اللحظة لم يدُر في رأس “ليال” سوى إنقاذ ابنها ذو العشر سنوات والذي كان ينام في الغرفة المجاورة ولكن الشظية الأكبر كانت من نصيبها في هذه الأثناء  حيث أصابتها ورمتها مع أشلاء البيت المُدمَر حيث غابت عن الوعي إلى أن استطاع رجال الدفاع المدني الحضور بعد أكثر من ساعة وإسعافها إلى المشفى الميداني لأن النظام يمنع استقبال ضحايا القصف في المناطق الخارجة عن سيطرته في مشافي الدولة حيث يعتبِر النظام أن السكان المدنيين هم الحاضنة للثوار لذلك يمنع علاجهم، إذا افترضنا أن الطريق سالك إلى مناطق النظام بالأساس.

تم إسعاف ليال إلى المشفى الميداني وبقي ابنها ذي الثلاث سنوات يصارع وحيداً بانتظار أن تطاله أيادي فرق الدفاع المدني من تحت الأنقاض وهو ما استغرق خمس ساعات بالضبط.

في المشفى الميداني تلقت ليال” اسعافات أولية وقام المشفى بتحويلها إلى تركيا بسب حدوث بتر في مشط رجلها اليسرى وبُتر مفصل الركبة اليمنى وتشوه جسدها بالكامل نتيجة الشظايا المتفجرة وقد منحها المشفى الميداني تحويلاً إلى تركيا عن طريق باب السلامة وعند حضورها وعائلتها إلى المعبر مُنِعت من الدخول وقد تم إخبارها من قبل الشرطة التركية في أن إصابتها قديمة ولا يمكنها العبور وقد تم إخبارها حرفياً “اذهبي وأكملي علاجك في بلدك” ولم يكن لدى ليال القدرة على إفهام تلك الشرطة التركية أن مشافي بلدها أصبحت خارج الخدمة بسبب قصف النظام وأنها لا تستطيع تلقي العلاج في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري فهي تعتبر إرهابية من وجهة نظره. فكان الخيار الأخير طريق التهريب. مع كل يوم تأخير كانت “ليال” تفقد الأمل في النجاة، ولنا أن نتصور طريق التهريب و مخاطره في حالة كهذه،  وقد عادت العائلة من المعبر مراراً وهي تبحث عن مهرب إلى أن وجدت ضالتها وقد تم تهريبها على بطانية بحيث تم وضعها عليها لعدم قدرتها على المشي، حيث حملها أربعة رجال من زواياها الأربعة وبدأت رحلة مسير استمرت يوماً كاملاً إلى أن وُفِّقَت بالدخول إلى مشفى “كلس” الحدودي ولكن المشفى رفض استقبالها فكان لابد من رحلة أخرى إلى عينتاب.

 في عينتاب أيضا لم يكن الوضع أفضل حيث لم يكن بإمكانها تلقي العلاج إلا على نفقتها الخاصة ولم تكن “ليال” تملك الإمكانات المادية اللازمة .. كل المشافي العامة رفضت استقبالها وأثناء معاينتها في مشفى الدولة تبرع طبيب تركي بعلاجها على نفقته الخاصة، وهنا بدأت المعاناة والصدمة نتيجة الرحلة الطويلة وغياب الرعاية الصحية حيث تعفنت جراحها بسبب مرور الوقت على الإصابة، مما كلف “ليال” عملية تصحيح البتر أي بتر ما فوق كف القدم وخسران جزء آخر من جسدها.

 بقيت “ليال” في المشفى أكثر من أربعة شهور وخضعت لعدة عمليات بعضها نجح وبعضها لم ينجح ونتيجة لفترة العلاج الطويلة لم يعد جسدها يستجيب للعلاج فقررت الخروج من المشفى وإكمال علاجها في مركز خارجي.

بقيت ليال حوالي السنة والنصف مُقعدة تماماً مما زاد حالتها النفسية والصحية سوءا إلى أن وصلت إلى

مركز “خطوات الإرادة” وهو مركز مختص بتركيب الأطراف الصناعية وتقديم الدعم النفسي للمبتورين.  وهناك خضعت لعلاج نفسي وصحي وساعدها المركز بالحصول على طرف صناعي لرجلها اليسرى مما مكنها من المشي مجدداً.

اعتقدت ليال أن معاناتها توقفت عند هذا الحد ولكن للأسف الرجل اليمنى وبتر المفصل من الركبة وزرع مفصل بلاتين صناعي كان عملية جراحية فاشلة ولم يتم تقبل جسدها للعملية. مما اضطرها لإجراء عمل جراحي ونزع المفصل الصناعي مما أدى لمشاكل صحية لا تنتهي.

ليال بحاجة لتركيب مفصل صناعي من معدن غالي يختلف عن البلاتين حتى يتقبله جسدها تكلفة هذا العمل الجراحي حوالي 5000 دولار وهي لا تملك قوت يومها، وزوجها لا يستطيع العمل بشكل متواصل بسبب عمره وإصابته بمرض الديسك الذي يمنعه من القيام بأفعال مُجهدة. ولا يوجد أي مركز أو منظمة توفر له رعاية مناسبة

إن سقف أحلام “ليال” بات كرسياً كهربائياً متحركاً تستطيع من خلاله أن تخرج للعالم مرةً أخرى لكي ترى الشارع والناس وتشعر أنها تنتمي إلى هذا المجتمع، فمن سيجيب رغبة امرأة طريحة فراشها مع خمسة أطفال لا تستطيع رعايتهم، أم أن حلمها البسيط والمشروع سوف يكون حلماً مبتوراً كجسدها ؟

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »