آلاء عوض
أكثر من ثلثي الموجودين في إدلب حالياً هم من النساء والأطفال، وفقَ آخر الإحصاءات، أرقامٌ تشي بعمق الكارثة وهولها، بالنسبة لوضع لم يعد لكلماتٍ على شاكلة مأساة، فاجعة، كارثة، أي معنى أو تأثير، فكلمة سوري/ سورية صارت بحد ذاتها اختصاراً لكل المعاني المؤلمة، ولا داعٍ للكثير من الشرح والتفصيل والتفنيد.
لِمَ نكتب عن النساء، وما الذي ستغيّره المقالات من واقع حالهن، فهن ومنذ اندلاع الثورة السورية يعشن حالة فقدٍ وخوفٍ وعوَزٍ متصلة دون أي معين، ولم تنفعهن الكتابات شيئاً لا بل كانت سبباً بعض الأحيان في ترسيخ صور نمطية عنهن، وفي تأكيد أنهن قاصرات وضعيفات وغير قادرات على مجابهة رياح الثورة ودفع أثمانها.
مشاعرُ الخوف هي الأكثر ثباتاً في الواقع الأنثوي السوري، يتغيّر كل شيء حول المرأة السورية، إلا الخوف، فهي تحولت من متزوجة إلى أرملة، من سيدة منزلها إلى لاجئة متشردة هي وأبناءها في المخيمات وبيوت العراء، من أمّ إلى ثكلى مفجوعة مسكونة بالمرارة، وتحوّلت بعد ذلك كله إلى شبحٍ خالٍ من أيّ مشاعر وطاقات. كلّ مادي وروحي يتبدّل ويتضاءل من حولها إلا الحزن والانكسارات تتضاعف، ويبقى الخوف ثابتاً بجبروته في مصابها. وفي كل رحلة جديدة تخوضها وهي ما زالت على قيد الحياة تتأهب للخوف حتى باتت تخاف منه، من أن يأتي على عجل، أو كثيراً في غير أوانه، أو قبل أن تشحن بعضاً من طاقتها في استقبال كوارث جديدة.
ما أن تجد المرأة السورية مستقرّاً يقيها وأهلها / أبنائها الموت، لعلة الظروف الطبيعية والمناخية أحياناً، حتى تبدأ رحلة أخرى من الخوف، خوفٌ من خسارة السقف الجديد، وخوفٌ من نزوح آخر لم يعد بمتسعها تحمله، خوفٌ من موت آخر لا يأخذ روحها، بل يأخذ ما تبقى من أنفاسها الضرورية لتعمير الكوخ الجديد.
نساء إدلب لا يحتجن أيّ مساعدات من أي نوع هن فقط بحاجة لعدم المتاجرة بهن، هن فقط بحاجة لمن لا يعدهنّ بإمكانية توقف الخوف في الأفق القريب، هن فقط بحاجة لمن يعترف لهن بأن ما يحدث لهنّ مستمر، ولن توقفه أو تخفّف من حدته النداءات، ولا بيانات التنديد والاستنكارات. هن فقط بحاجة لمن يصدقهنّ القول ولا يخدعهنّ أكثر أو يعدهنّ بأنَّ هذا الوضع آفل لا محال، فالتشخيص الحالي أشبه بالمرض المزمن العضال الذي لا يمكن الشفاء منه ولكن عندما يدرك المريض وضعه يبدأ جسمه بإرسال إشارات في سبيل الانسجام والاعتياد على الحال الجديد، ومن ثم التحضّر للألم والخوف وعدم خشيتهما.
الطائرة ستقصف مجدداً، البيت الجديد سيهدّم، لكن من الحظ بمكان ألا يهدم فوق رؤوس الأبناء. والمؤن ستنتهي، دون وعود بإمكانية تجديدها. تلك هي الطريقة الوحيدة التي من الممكن لنا من خلالها امتصاص غضب الأنوثة التي عُشّمت في إدلب بالأمان ولم تنله وعُشّمت قبلها بكثير من الآمال والوعود الآثمة.
لا يوجد امرأة في إدلب اليوم لم تنزح هي وأبناءها أكثر من مرة أو مرتين في الحدود الدنيا، وفي كل مرة يأخذها الأمل لمطارح أشدّ قسوة. تقرير تحليلي صادر عن (مركز كارنيغي للشرق الأوسط) رصدَ آراء بعض الخبراء حول الأوضاع الحالية في مدينة إدلب السورية، تقول الباحثة إيما بيلز: “الصراع سيتواصل في إدلب على الأرجح، وسيتفاقم بالتالي تدهور الأوضاع الإنسانية هناك”، مضيفة أن أعمال العنف الأخيرة أدّت إلى المزيد من موجات الترحيل، إذ إنّ بعض السكان انتقلوا من مكان إلى آخر من خمس إلى عشر مرات خلال فترة الصراع، بحيث تواجه المنظمات الدولية صعوبة في مواكبة تحرّكهم.
خاص بشبكة المرأة السورية